عندما عاد يوسف إلى المنزل مساءً وجد منال وفارس منخرطين في الدراسة.. كانت منال تحاول أن توضح له مسألةً رياضية.. تنهد شاعرا بالعزلة عنهما من جديد.. ولكنه كان قد تعمد أن لا يتأخر، لم يرد أن يشعر فارس أنه من المقبول للأب أن يغيب فترات طويلة تاركا المسؤولية على الأم.
حياهما بهدوء، ردت منال التحية مجاهدةً كي لا تبدو جافة.. غاب في الداخل لدقائق قبل أن يعود ليجلس معهما..
انشغل بحاسبه وتأملهما من فترة لفترة.. إنه يعرف أن منال قد بذلت، ولازالت تبذل جهدا هائلا في تعليم فارس.
فهي تريد أن تمنحه تعليما قويا، وفي الوقت نفسه تريد أن تجعله يستمتع بهذا. وهكذا راقبها على مر السنين وهي تبتكر عشرات الطرق كي تجعل التعلم عملية ممتعة في حياة فارس. إن هذا ما أنتج فارس المثقف الذكي سريع البديهة..
زفر بضيق حين واجهته مشكلة خلال عمله بالحاسب.. حاول إصلاحها وفشل.. كانت عادته أن يلجأ لمنال لأي مشكلة مرتبطة بالحاسب إذ كانت هذه مهارتها الأفضل، ولكنه كان يحاول تجنب الكلام معها..
جرب كل الطرق والسبل، ويئس أخيرا وانزعج لتعطله عن عمله.. قال بهدوء: منال.
التفتت له غير متوقعة نداءه.. قال بذات النبرة: هلّا ألقيتِ نظرة على الجهاز؟
ابتسمت بتصنع: بالتأكيد. -عبثت بشعر فارس- عليك أن تنهي هذه المسألة حتى أعود.
سكت فارس وهو يركز عينيه عليها وعلى أبيه.. نهضت وجلست بجانب يوسف منزعجة كثيرا من وجوده ومن قربه.. وضعت الحاسب في حجرها وانشغلت بالعمل.. ظل فارس يطيل النظر إليهما ويراقب تصرفاتهما وتعابيرهما..
كان يوسف محافظا على مسافته مع منال، لم يتلامس معها.. فيما كان جسمها هي مشدودا وحاجبيها مقطبين دون شعور منها.. بعد دقائق من الضغطات السريعة ناولته الجهاز وقالت مبتسمة ابتسامة صفراء: حُلت المشكلة.
: شكرا لكِ.
نهضت من جانبه متعجلة دون شعور كذلك.. وعادت بجانب فارس الذي لاحظت أنه هدأ فجأة..
قطبت حاجبيها: أنت لم تحل شيئا -ابتسمت- أين سرحت؟
اطرق متوترا: لم أسرح. سأحلها الآن.—
ليلا كانت منال جالسة بجانب فارس على السرير كالعادة كي ينام.. قصّت له قصة، ولكنه لم ينم، وظل يتقلب باستمرار بعدم راحة واضحة..
كانت تحس انه ليس بخير منذ ان كانا يدرسان، لم تفهم السبب.
مسحت على وجنته: هل من مشكلة؟
رفع عينيه إليها، شهقت حين رأت عينيه ممتلئتين بالدموع، وعلى وجهه ملامح عذاب وقلق لايوصف. قالت بفزع: مابالك ياحبيبي؟ لم تبكي!!
اعتدل جالسا واطلق بكاءه المحبوس منفجرا.. شهق شهقات حادة وتساقطت دموعه كالمطر..
سحبته إلى حضنها ومسحت على ظهره محاولة تهدئته.. قال بصوت مكتوم ومتقطع: أنتما لستما على مايرام.
قطبت حاجبيها..: نحن؟ تعني أنا وبابا؟
هز رأسه.. تنهدت بقلق: لماذا تقول هذا يافارس! نحن بخير وبأحسن حال!
أفلتت منه شهقة تلو شهقة مانعة إياه من الكلام.. قال بصعوبة: أنتما متشاجران.. أنا أعرف هذا.. يمكنني ملاحظته عليكما. -مسح وجهه وقال برعب- وسيذهب أحدكما ويتركني.
عضت على شفتها لاعنة نفسها ولاعنة يوسف وشاتمة كل حياتهم. شدته بقوة إلى صدرها وهمست: فارس، حبيبي، لن يذهب أي منا إلى أي مكان.. أعدك بهذا! صدقني أرجوك!
رفع رأسه إليها.. صدمت بوجهه الأحمر الغارق وسط شلال من الدموع.. قال بعصبية: لقد قلتِ هذا قبل أن تذهبي.. قلتِ أن أباك ترككِ، وأن هذا فعل لا يفعله الآباء أبدا ولا تفعله الأمهات، وقلتِ أنك لن تفعليه أبدا.. -ارتجف- لماذا علي أن أصدقكِ الآن؟؟
تنهدت بألم كبير وضمته إليها.. قبلت رأسه وقالت بحنان: أرجوك صدقني هذه المرة.. فارس، أنا لن أذهب حتى لو احترقت الدنيا.. أعدك. لا تخف!
تمسك بها بشدة وبكى.. تمتم: لستما بخير.. لستما سعيدين معا.. سوف تتشاجران..
شدته إليها عاجزة عن النطق.. ماذا قد تقول له؟ وكيف ستطمئنه؟
حملته ونهضت به قائلة: ستنام معنا اليوم.. اتفقنا؟
هز رأسه بالإيجاب ودفن وجهه في رقبتها..
دخلت به غرفتهما، كان يوسف بالفعل على السرير متابعا العمل على حاسبه.. قطب حاجبيه بصدمة حين رأى فارس الذي يكتم بكاءه وشهيقه يهز جسمه هزًا.. نظر إليها بعجب.. وضعت فارس برقة على السرير، دفن وجهه في الوسادة وانكمش.. خففت الإضاءة وجلست بجانبه.. ضم ذراعها إليه بقوة.. مد يده الأخرى بتردد وأراحها بحيث تلامس أباه، كان يعرف أن أباه لن يمنحه العاطفة، ولكنه أراد فقط أن يشعر بوجوده..
تألم يوسف ألما بالغا من ذلك التصرف.. إن ابنه لم يجرؤ حتى أن يمسك بيده! لم يعجبه هذا.. مد يده وأحاط بها كف فارس بلطف.. سكن فارس براحة هائلة اثر تلك الحركة.. لم يعرف يعرف يوسف كم كان لتلك الحركة تأثير هائل لا يوصف على فارس الذي عانى كل يوم من جفائه.. تمسك بكف أبيه، بينما أفلت ذراع أمه كي تمسح على شعره ووجنته.. بدأ شهيقه يخفت ويتحول إلى أنفاس سريعة متقطعة.. ثم بشكل تدريجي غفى مجهدا من كل هذا البكاء..
نظر يوسف إلى منال التي كانت تتأمل فارس بعينين حزينتين وهي تمرر يدها ببطء على شعره ووجهه.. همس بهدوء: ماسبب كل هذا؟
قالت بتعب: إنه يقول أننا متخالفان، وأننا سنتركه.
قطب حاجبيه: ولكن لماذا! نحن لم نظهر له أبسط خلاف!
: لا اعرف. انه شيء غريب كالحاسة السادسة. لا اعرف. انه يشعر بكل شيء يحصل حوله. او اننا غبيان ولا نعرف كيف نكذب على طفل في السابعة.
تنهد يوسف منزعجا.. تابعت هي: سنذهب إلى الطبيب. احجز موعدا في أقرب فرصة. سيكون عليه أن يعلمنا كيف نخفي عنه مايحصل بيننا.
: حسنا، أنت محقة.
راقبت هي هذه المرة يوسف وهو يتأمل فارس.. إنها نظرة حنونة لا تعرفها، ولم ترها منه قبلا.. النظرة التي حلمت بها حين كانت طفلة، وحين كانت تتوق لرضى يوسف عنها ولكسرات الحنان التي كان يرميها لها كل مدة.
ناما، وكل منهما يحيط فارس بذراعه.
__
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...