١١

3.5K 85 9
                                    

أفاقت في اليوم التالي.. رمشت ببطء محاولة أن تتذكر أين هي، وماذا حصل..
محلول موصول بكفها.. جسمها خفيف جدا.. اعتدلت جالسة بإرهاق.. ابتسمت لها الممرضة التي كانت ترتب المكان.. عاونتها على النهوض.. اغتسلت وعادت لتجد أن الممرضة قد أحضرت لها طعاما.. كانت شهيتها منعدمة.. تركته.. رمت نفسها مرة أخرى على السرير بإنهاك.. كل شيء في جسمها يؤلمها.. كل عضلة وكل عظمة..
جاءت الطبيبة لبعض المراجعات.. خضعت لفحوص طويلة.. ووصلت كفها بمحلول آخر..
: هل تريدين أن أحضر الصغير؟
حدقت بالممرضة المبتسمة.. تنهدت.. قالت هامسة: لا داعي..
ذابت ابتسامة الممرضة وغادرت.. خلت الغرفة أخيرا.. استلقت رافعة ظهر السرير قليلا.. شغلت التلفاز وحدقت به بشرود..
ثم أمسكت هاتفها.. قطبت حاجبيها.. رسالة من أبيها.. لقد عرف بشأن ولادتها.. أغمضت عينيها بتعب وتجاهلت الرسالة وانشغلت بأمور أخرى..
بعد مرور عدة ساعات جاء أخيرا. تقدم حتى السرير.. تحمحم وقال بهدوء: كيف حالكِ؟
همهمت وهي منشغلة بالهاتف: بخير..
وقعت عينه على طعامها..: لم تأكلي!
: لا أريد..
أغمض عينيه بنفاد صبر: ليس مجددا!!
سحب طاولة الطعام وقربها منها: سأذهب للحديث مع الطبيب.. لا أريد أن أرى الطعام كما هو حين أعود!
حدقت به ببرود.. كاد أن يذهب.. ولكنه تراجع حين تذكر وقال: و.. أعطني هاتفك!
قطبت حاجبيها: لماذا؟
كرر بصرامة: أعطني فحسب!
مدت له الهاتف بضيق.. كان يعرف أن والدها علم عن ولادتها.. لاشك أنه تواصل معها.. أراد أن يعرف إن كانت قد تجاوبت معه.
فتح الرسائل.. زفر براحة، لقد تجاهلته. رمى هاتفها في حضنها وغادر..
__

: انتظرت اجتماعكما معا كي أتحدث معكما عن صحة الطفل.. إنه بخير.. ولكن رئتيه ليستا بالكفاءة التي تجب.. قد يتعبه المجهود الكبير حين يكبر.. سيواجه صعوبات بسيطة في التنفس وسيحتاج وقتها إلى علاج بالأكسجين...
أكمل الطبيب كلامه إلى التفاصيل.. كانت مغمضة عينيها.. أما يوسف فكان يحدق في الأرض بوجه متعرق.. هذا بسببه.. هذا الإنسان لن يستطيع التنفس جيدا لبقية حياته بسبب دناءته وحيوانيته.
كان الصوت غائما في أذني كليهما، أكمل الطبيب حديثه وخرج، مسح يوسف وجهه بتعب شديد. لم تنطق هي بحرف.. هذا ما جلبه هذا اللعين لنفسه.
التفت إليها محاولا التماسك وقال بصوت هادئ: استعدي.. سنخرج بعد قليل..
لقد مضى أسبوع على بقائهما في المستشفى ولقد عادت هي إلى عافيتها.. قالت بهدوء: ماذا عنه؟
قال بتردد: أظن أنني سأبقيه في الحضانة هنا حتى نتأكد من صلاح العائلة التي سنختارها..
قالت بضيق: لا.. لا.. هذا ليس صوابا!
قال بجدية: لا حل آخر، لا نعرف كيف نعتني به!
: سأتدبر أمري.. أحضره معنا فقط!
: لن نبقيه عندنا يا منال! تعرفين ذلك، ليس لكِ أن تتعلقي به!
بلعت ريقها ببعض القلق: لن أفعل.. أحضره فحسب.. لنقدم له عناية جيدة على الأقل.. لن نرميه هنا كالأيتام..
حدق بها بتفكير.. لا يريد.. لا يريد حتى أن يراه.. فرك عينيه.. لا يجب أن يكون أنانيا أكثر من هذا.. يكفي الضرر الذي تسبب به بالفعل.
قال بهمس..: حسنا.. تجهزي واذهبي لأخذه من الحضانة..
سكتت.. لن يذهب هو لإحضاره.. لماذا يتجنب حتى رؤيته؟
: لم تلقِ نظرة عليه بعد؟
نظر إليها بحدة: لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ.. أسرعي!
زفرت ونهضت..
__
دخلا المنزل.. كان قد أمر عماله أن يجهزوه باحتياجات الطفل..
كانت تحمله بحرص.. تحدق به طويلا شاردة.. دخل قبلها وقال دون أن يلتفت: اسمعي.. كل شيء جاهز في غرفتك.. لا أريد أن أراه خارجها.. هل تفهمين؟
هذا الشيء لن يخرج من غرفتك لحظة واحدة.. ولا خطوة واحدة.. لا أريد أن أراه ولا أن أسمع صوته! فهمتِ؟
لم تنطق بحرف.. لم تكن لديها الطاقة لمناقشته.. إنه عديم الشعور..
دخل غرفته وأغلق الباب.. سارت بحذر وهي تتأمل طفلها نحو غرفتها.. وجدت سريرا له.. وطاولة بأدراج عليها مستلزمات كثيرة..
كان نائما.. وضعته في السرير بحرص.. استندت على السرير تتأمله.. ملامحه منكمشة ويده المقبوضة قريبة من خده.. كانت وسط شعور جديد، كان شعورا غريبا ومخيفا.. إن هذا المخلوق الصغير يحتاجها الآن ويعتمد عليها في كل شيء، من أبسط احتياجاته إلى أكبرها.
زفرت وألقت بنفسها على السرير لتنام أخيرا بعد تعب طويل..
__
مرت الشهور.. لازال يوسف يبحث ويراقب العائلات.. لازالت هي في غرفتها مع الطفل معظم الوقت، إنها تخرج مجبرةً حين يكون نائما أو هادئا كي تتجنب غضب يوسف الذي كان ينفجر حين تطيل الغياب عنه.
لم ير يوسف الطفل أبدا، ولم يدخل الغرفة عليهما.
خرجت من الغرفة عصرا بعد أن نام الطفل، بحثت عن يوسف، وجدت باب غرفة المكتب مغلقا والنور مضاءً، سحبت نفسا عميقا وطرقت الباب..
: تعالي..
دخلت بتردد.. كان جالسا خلف مكتبه وسط أكوام من السجائر والأوراق والمستندات..
رفع عينيه المتعبتين عليها..: ادخلي!
سارت بهدوء وجلست على كنبة مقابل المكتب.. أركى ظهره على كرسيه وانتظر إذ بدا له أن عندها ماتقوله.
قالت وهي تعبث بورقة في يدها..: نحن لم نسمّه..
قطب حاجبيه بصدمة.. لم يخطر هذا في باله.. كيف؟
: سمه ما تريدين، لن أشارك في هذا.
رفعت عينيها عليه بضيق، إن أنانيته تدهشها كل مرة، يرفض حتى المشاركة في شيء تافه مثل اختيار الاسم. لم تهتم، فهي بالفعل قد اختارت اسما للطفل ونادته به كل تلك الشهور..: فارس إذن..
هز كتفيه بحركة خفيفة بلا اهتمام.. توترت.. كل شيء يفعله لا يساعدها على الانتقال لموضوعها التالي..
: لا يمكن أن يكون كل هذا التوتر لأجل اسم.. ما الذي تريدين حقا الحديث بشأنه؟
تنهدت.. يقرؤها كعادته..: حسنا، لقد فكرت.. -سحبت نفسا وصار صوتها أكثر ثباتا- ربما يمكننا إعادة التفكير.. بشأن.. إعطائه للتبني..
قطب حاجبيه وقال بحدة: ماذا!!!؟
أجابت بسرعة دفاعية: لنعط الأمر فرصـ...
قاطعها ضاربا المكتب بقبضته بغضب: لقد حذرتكِ من هذا! حذرتكِ من التعلق به! نحن لن نربي طفلا هنا! نحن لسنا أبوين! هل تفهمين؟ هذا المخلوق اللعين سيخرج من بيتي بأقرب وقت ممكن!
: أنت لم تره يا يوسف! ستفهم ما أقول إذا لمسته وحملته ولاعبته.. إنه.. إنه جزء مني ومنك! كيف تترك جزءًا منك يذهب وحسب؟
دفع الكرسي ونهض باتجاهها بعصبية.. وقفت وتراجعت خطوة قائلة بقلق: لا داعي لاستعمال القوة! هل يمكن أن نتكلم في الأمر فقط؟
قال بعصبية: مشكلتكِ أنكِ لا تفهمين دون استعمال القوة! حين أقول لكِ شيئا أطيعيه وحينها لن تتأذي!
أغمضت عينيها.. سحبت نفسا.. فتحتها وقالت بجدية: يوسف ! أنت تطلب مني التخلي عن ابني! هذا ليس شيئا يطاع دون نقاش!
ضغط على أسنانه.. إنها محقة.. ويزعجه كم هي محقة.. وكم هو وحش عديم الإنسانية..
لم يعد باستطاعته مجادلتها فلا حجة عنده، كان عليه أن يلجأ للعنف كحلّ أخير.
حدق بها وخلال ثوان هوى على وجهها بصفعة قوية، التوت رقبتها لشدة الالتفافة وشعرت بوجهها يحترق من الألم.. التفتت إليه بعيون كلها حقد.. كانت على وشك الصراخ لكنه تقدم منها وقبض على معصمها بخشونة: اسمعيني يا منال.. هذا البيت لن يعيش فيه طفل.. أنتِ بنفسكِ تدركين هذا.. نحن مرضى.. وهذا بيت مريض! إنكِ الآن مشوشة ومتأثرة وهرموناتكِ ليست طبيعية.. ستستوعبين حماقة ماتقولينه قريبا! هل تفهمين؟
غمغمت: دعني.. أفلتني!
لوى معصمها وصرخ بغضب: قلتُ هل تفهمين؟ لا تناقشيني في إبقاء ذلك الشيء مرة أخرى! لن يبقى معي ولا معكِ! مفهوم؟
احتد تنفسها لشدة الألم.. ظل يلوي ويلوي وهي تحاول مقاومته.. غمغم: لا تجعليني أكسر يدك يا منال! لن تستطيعي الاعتناء به بيد واحدة!
قالت وهي تحاول السيطرة على صوتها كي لا تصرخ حتى يهدأ ولو قليلا: هلا تركتني لنتكلم بشكل طبيعي؟ لماذا لا تكلف نفسك بالاستماع، فقط بالاستماع الذي لن يتطلب أي جهد؟ لماذا علي أن أذعن عن طريق القوة فحسب؟ أنت تعلم أن كلامك هو الذي سينفذ في آخر الأمر، لا حاجة للغضب ولا للقوة!
زاد ضغطه على يدها وظهرت قسوة مقلقة على ملامحه، إنه يريد أن يتجنب النقاش تماما: يبدو أنكِ لا تستوعبين.. إذن علي أن أنفذ الآن لننتهي من كل هذه القصة!
ارتجفت.. هل سيأخذه الآن؟ شعرت بقلبها يثقل بالخوف.. قالت بسرعة: لا.. حسنا.. لقد فهمت..
نظر إليها بضيق للحظات.. يزعجه انصباب اهتمامها على ذلك الشيء.. ربما لأنه لم يحظ باهتمامها من قبل.. أحس أنه غبي.. يغار من رضيع! أفلت يدها بعنف.. زفرت بتعب وهي تدلك يدها.. سحبت نفسا وقالت بصوت هادئ: تعرف يا يوسف.. يوما ما ستطلب مني أن أسامحك.. ووقتها أنا لن أفعل.
قطب حاجبيه بانزعاج.. خرجت من الغرفة متضايقة وأغلقت الباب خلفها.. لا مجال لإقناعه على ما يبدو.. إنها متمسكة به.. هذا الطفل غيرها.. وجعلها تشعر من جديد.. كانت خائفة.. لا يمكنها التخلي عنه.. هل كل مايمكنها فعله هو تأجيل وقت انتزاعه منها؟
__

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن