٢١

2.5K 54 5
                                    

فتحت عينيها دفعة واحدة شاعرة بألم شديد، حين اتضحت الرؤية أمامها كان فارس يمد يده ليهزها مجددا ويوقظها.. صرخت بعصبية: لاتلمسني يافارس!!!
انكمش فارس وسحب يده بخوف.. عضت على شفتها.. كان جسمها كله يتمزق.. كل عضلة فيه تؤلمها.. كل هذا كان أكثر من طاقتها، والألم كان أشد من أن يفهمه دماغها.. أغمضت عينيها وقالت بصوت هامس: أنا آسفة.. يافارس.. أنا مريضة فقط.. اتركني أنام الآن..
سكت فارس لحظات.. ثم تمتم بصوت مخنوق: أنتِ.. أنتِ لم تعودي تحبينني..
تغير وجهها.. تابع بدموع متساقطة: لقد أصبحتِ مختلفة.. أنتِ لم تعودي تهتمين بي رغم أنكِ وعدتني أنك ستفعلين إلى الأبد.. -تهدج صوته- لا بأس.. افعلي ماتريدين.. أنا أيضا لا أحبكِ..
خرج من الغرفة راكضا بخطوات سريعة.. أغمضت عينيها بتعب شديد.. كانت وبشكل مفاجئ تعي كم كانت أنانية.. لقد ضحت بفارس لأجل نفسها، كي تنجو من الألم، وضحت بنفسها لأجل التخلص من الألم كذلك، لقد فقدت نفسها، تحولت إلى آلة، أو إلى كائن بليد أبله، وكل هذا دفع ثمنه فارس!
لم تكن تتحمل أكثر.. لم يكن باستطاعتها تحمل هذه العبودية، أو تحمل تحولها إلى خادمة يوسف أو حيوانه الأليف.. لقد سئمت!
جرت نفسها من السرير، ارتدت ملابسها.. رفعت هاتفها واتصلت بالشخص الوحيد الذي سيساعدها دون شروط..
: منال.. أهلا يا ابنتي..
: أنا بحاجة لمساعدتك..
: منال! لماذا صوتكِ هكذا؟ هل أنتِ بخير؟ ماذا تريدين؟
سحبت نفسا عميقا..: قابلني في مطعم ال....
: حسنا.. دقائق وأكون هناك..
تحركت بسرعة متجاهلة ألمها الشديد.. حمعت بعض الضروريات في حقيبة صغيرة، خرجت من الغرفة ذاهبة إلى فارس.. كان جالسا أمام التلفاز بعد أن مسح دموعه بلا إتقان..
تنهدت.. جلست بجانبه، كان يتجاهلها.. وضعت كفيها على وجنتيه وأجبرته على النظر إليها.. حدق بها بحاجبين مقطبين.. شعرت بقلبها يتفطر.. قالت بجدية، بحنان، وبصدق كبير: أنا أحبك يا فارس، وسأظل أحبك مهما حصل. وحين تكبر، ستفهم أنني لم أتغير، وأنني أحببتك في كل لحظة أكثر من سابقتها.. ولكن، حتى ذلك الحين، أرجوك، لا تغضب مني..
سكت.. قبلت جبينه قبلة طويلة.. قالت بهدوء: هل تصدقني؟ هل تصدق كم أحبك يا فارس؟ إنك أهم عندي من نفسي ومن أي شيء آخر..
ارتعشت شفتاه..: لماذا إذن تهملينني؟
زفرت.. إنها تجد نفسها في موقف بشع.. لقد لامت دائما والدها لأنه غادر دون أن يقول لها أنه مغادر فعلا، ودون أن يجهزها نفسيا لذلك.. لقد كرهته لأنه لم يكن صادقا معها ولأنه تركها تنتظره وتأمل عودته، ولأن حقيقة أنه لن يعود أبدا قتلتها حين فهمتها وأدركتها.. لم تكن لتفعل ذلك لفارس.. في الوقت نفسه، ماذا ستقول له بدلا عن ذلك؟ وكيف ستبرر له ذهابها؟
قالت بهدوء: فارس.. إنني لا أتعمد إهمالك.. إن الظروف التي تحيط بنا تجعلني متعبة ومريضة.. وهذا يأخذ كل طاقتي ويمنعني من العناية بك.. ولهذا -سحبت نفسا عميقا- سيكون علي أن أذهب لفترة. أنا لا أعرف متى سأعود.. ولكنني سأختفي قليلا كي أستطيع التخلص من هذه الظروف التي تدفعني لإهمالك..
اتسعت عيناه.. بدا عليه الخوف الشديد.. إن الكابوس الذي دائما تصوره.. أن يخسر أمه.. يتحقق الآن.. ارتجف.. أمسك بملابسها وشد عليها بقوة..: كيف؟ لا تفعلي! لاتتركيني!!
أحست بألم هائل يعصر قلبها.. لعنت يوسف ألف مرة.. قالت بهمس: لن أتركك.. سأتواصل معك فور استطاعتي، وسوف أعود حين أستطيع. هل تذكر كلامنا؟ حين قلت أن عليك أن تكون قويا من أجلي؟ هذا وقته يافارس. عليك أن تصبر فقط، قليلا فقط. وسوف تسمع مني قريبا جدا، أعدك.
هز رأسه بالنفي وتساقطت دموعه كالشلال.. لم يكن عندها متسع من الوقت.. ولم يكن باستطاعتها أخذه معها.. لم تكن تعرف إلى أين هي ذاهبة.. ولم تكن لتجعله يتشرد معها.. عانقته بكل قوتها.. مسحت على شعره فيما بكى بشدة وهو يعانقها كذلك.. قبلت وجنتيه وعينيه وجبينه ثم تحركت خارجة من المنزل دون كلمة أخرى.. لم يتحرك فارس من مكانه وانكمش على نفسه باكيا..
مباشرة كان حرس يوسف أمامها..: أنتِ ممنوعة من الخروج يا سيدتي.. عذرا..
قالت بهدوء: إنني مريضة بشدة، وعليك أخذي إلى المستشفى فورا، وبإمكانك إبلاغ يوسف بذلك..
تغير وجهه، قال بتوتر: دعيني فقط أ..
قالت بحدة: إنني أنزف أيها اللعين، يمكنك سؤاله لاحقا، تحرك، أنت تعرف أنك ستموت إذا تضررت!
امتقع وجهه وتحرك بسرعة نحو السيارة.. أرسل رسالة ليوسف ثم انطلق بسرعة باتجاه المستشفى.. حين نزلت إلى هناك، اتجهت إلى أحد الحرس، همست في أذنه أن هناك من يلاحقها ويزعجها، مشيرة إلى رجال يوسف الواقفين على بعد مسافة، ومباشرة انطلقت بعدها بين الممرات، ثم في أحد الحمامات غيرت ملابسها، ارتدت قبعة ونظارة شمسية وغادرت المستشفى من بوابة أخرى..
استقلت سيارة أجرة بعد مسافة من السير بين الأزقة كي تصعب تتبعها عبر الكاميرات التي تعرف أن يوسف يستطيع الوصول إليها.. ثم ذهبت إلى المطعم..
حين دخلت وقف والدها بلهفة.. فور اقترابها تغير وجهه..: لماذا وجهكِ هكذا يامنال؟ هل أنتِ بخير؟ هل حصل شيء؟ لماذا نحلتِ هكذا؟؟
كان وجهها أصفرا وكئيبا وميتا، وعيناها غارقتين وسط سواد كثيف.. ملابسها كانت سوداء مما أبرز شحوبها أكثر..
جلست بصعوبة شاعرة بالألم يسري مجددا كالكهرباء في جسمها.. قالت بتعب: سأطلب منك شيئا واحدا.. يا أبي.. -سكتت لحظات، وظهرت على وجهه معالم الجدية الشديدة حين سمع لفظتها- ساعدني دون أن تسألني.. من فضلك.. أنا لا أملك طاقة لشيء الآن..
قال بهدوء: مُري بما تشائين..
سحبت نفسا عميقا.. قالت بجدية: أريد أن تتدبر لي مكانا أبيت فيه لعدة أيام، ثم تخرجني من البلاد دون أي تسجيل رسمي، هل تفهمني؟ أريد أن أخرج من هنا بشكل غير قانوني.. وحتى يحصل هذا، لا يمكنني المبيت بنفسي في فندق أو غيره، سيجدني يوسف، عليك أن تتدبر مكانا ليس مسجلا باسمك، وليس له أي علاقة بك أو بي بأي طريقة من الطرق.. هل تفهم ما أقول..
كان والدها ساكتا.. قال بصوت حزين: إذن.. تعترفين أخيرا أنه يؤذيكِ ويجبركِ على العيش معه..
أغمضت عينيها بضيق: الأمر أعقد من ذلك.. لا أريد الكلام عنه.. هل يمكنك فعل هذا لأجلي؟ صدقني.. لو كنت أستطيع فعل هذا لوحدي لفعلته..
قال بتردد: هل ستتركين ابنكِ معه؟
سكتت.. غرقت عيناها للحظات.. كانت تعي جيدا أنها تفعل مافعله والدها بالضبط.. أنها تفعل ما لامت والدها، ولازالت تلومه عليه.. قالت بتعب: إنه يحبه.. سيعتني به بشكل جيد.. سيعيش أفضل بكثير من أن يتشرد معي..
سكت أحمد.. قال بصوت واثق: اعتمدي علي.. اتفقنا؟
تنهدت.. مسحت عينيها مذكرة نفسها بأن عليها أن تكون قوية..: شكرا لك..
نهض أحمد وقال بلطف: هل نذهب؟
نهضت بتثاقل.. تناقشا طويلا في السيارة بشأن مكان المبيت، وفي نهاية الأمر ذهبا إلى أكواخ يتم تأجيرها في إحدى القرى.. وقضيا هناك عدة أيام..
__

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن