بعد دقائق من الصمت قضاها يوسف مقطب الحاجبين وواضح الانزعاج.. التفت بقلق حين سمع صوت فارس.. اضطرب حين رآه يرتجف، ويبكي محاولا بصعوبة كتمان شهقاته..
قال بتوتر: مابالك يافارس!
لم ينطق فارس وانكمش على نفسه مطرقا.. دقق يوسف النظر محاولا تفحص ملامحه ولكنه كان يخفيها بإطراقه الشديد والتصاقه بالباب.. انزعج وقال بعصبية شاعرا بعجز شديد عن التصرف: ما المشكلة؟ هلا تكلمت؟
انتفض فارس مع احتداد صوت أبيه وهز رأسه بالنفي..
زفر يوسف وهز رأسه بيأس.. لو كانت منال مكانه لاستطاعت استمالة فارس وتهدئته بسهولة.. لماذا لايستطيع هو ذلك؟ إنه يشعر بالتوتر والقلق، ولا يعرف كيف يسيطر على ظهور هذه المشاعر في صوته وأسلوبه.
بعد لحظات وصله صوت فارس المهزوز والمرتجف الذي نطق بصعوبة بالغة وهو بالكاد ينطق ويتنفس: لماذا تكرهني؟
اتسعت عينا يوسف.. جف حلقه والتفت إلى فارس بذهول ساهيا حتى عن الطريق.. قال مفجوعا: ماذا!!؟؟
ازداد بكاء فارس وكرر بالنبرة المتأذية ذاتها: أنت تكرهني وتنزعج حين أكون موجودا. لماذا؟ ماذا فعلت لك؟
أحس يوسف بالدنيا تدور به.. وبحركة سريعة أوقف السيارة جانبا عند أول موقفٍ ظهر في وجهه.
أرخى رأسه على المقعد وأغمض عينيه.. فارس يظن أنه يكرهه؟ ماهذا الجنون؟ كيف حصل هذا؟ أحس بشيء يعصر قلبه وهو يفكر بنبرة فارس حين سأله هذا السؤال.. كانت نبرة مليئة بألم لايوصف. كيف أوصله لتلك الحالة؟
سحب نفسا عميقا واستجمع كل قواه.. سحب هاتفه وأرسل لمنال: "سأتأخر وفارس في الخارج، إنه بخير، لاتقلقي، سأحكي لك لاحقا".
ترك هاتفه ونزل من السيارة دون أن يقول شيئا والتف إلى مقعد فارس.. فتح بابه ومد له يده وقال بجدية: تعال.
نظر فارس إلى أبيه أخيرا بعيونه الغارقة بالدموع.. مسحهما بأكمامه ونزل صامتا..
مشيا بضع خطوات فوق العشب الأخضر حيث كانا بجوار منتزه عام، كان فارس يمسح وجهه كل لحظات محاولا أن يوقف نفسه عن البكاء.. ولكنه كان يتألم، لقد نطق أخيرا بالسؤال الذي كان يؤرقه لسنين ويعذبه.. والذي لم يجرؤ على قوله من قبل لأي مخلوق، ولم يجرؤ حتى على التفكير به بشكل مطول لشدة ما أرعبه وآذاه.. كل تلك المشاعر تتفجر الآن في داخله.
وقفا أمام مقاعد حجرية مستطيلة مثبتة في الأرض مقابل طاولاتٍ من نفس الخامة. حمل يوسف فارس وأجلسه فوق الطاولة ثم جلس أمامه على الكرسي، أراد أن يواجه وجهه مباشرةً وينظر في عينيه.
دفن فارس وجهه بين يديه، أبعدهما يوسف بهدوء وقال بصوت جاد: اسمعني يافارس جيدا، انظر إلي!
هدأ فارس بعض الشيء لأنه قلق، فهذه ليست نبرة أبيه المعتادة.
تنهد يوسف ومسح دموع فارس بخفة بإبهاميه.. ركز عينيه في عيني فارس تركيزا واضحا ثم قال بهدوء: لقد كان أبي إنسانا سيئا يا فارس. بل في غاية السوء. وكان يؤذيني بكل طريقة تخطر في باله.
قطب فارس حاجبيه..: يؤذيك؟ كيف؟
مرر يوسف أصابعه على وجنة فارس بنعومة وهو يفكر كم من الحقيقة يفترض أن يعطيه.. قرر أن يكون صادقا جزئيا معه..: حسنا.. لقد كان يضربني، ويمنع عني الطعام، ويحبسني.
ظهر ذهول كبير على وجه فارس، إذ لم يتصور في حياته أن يكون شيء كهذا ممكنا.. أحس بقلق على أبيه وبحزن لأجله.. وبكراهية كبيرة لجده..
تابع يوسف: لقد كبرت ولم يعلمني أحد كيف أكون أبا. أنا لا أعرف الأبوة، لا أعرف إلا صورة مشوهة وخاطئة. -تنهد- عندما أنجبناك، لقد خفت كثيرا. خفت أن أكون أبا سيئا لأنني لم أجرب في حياتي أن يكون لي أب يحبني ويرعاني. صحيح أنني يستحيل أن أكون مثل الذي يدعى أبي، والذي يجب أن تفهم جيدا أنه لا يشبه الآباء في شيء.. ولكن، لقد خفت أن أفشل في مهمة صعبة مثل هذه.. وخفت أن يحزنك هذا ويؤثر عليك. ولهذا قررت أن أبتعد عنك.. لقد ظننت أنني أحميك من جهلي هذا ومن عجزي عن فهم الأبوة الصحيحة.. ولكنني أرى أنني كنت مخطئا.. لقد أحزنتك وآذيتك فعلا، ولقد فشلت، وكنت أبا في غاية السوء. ولهذا كنت أحس بالقلق في وجودك.. لأنني كنت أرى كم أحزنك ولا أستطيع التصرف.
ظل يوسف يدلك وجنة فارس بأطراف أصابعه، فيما كان فارس يستمع إلى أبيه بكل حواسه وعلى وجهه ملامح حزينة.. ارتجف حين رأى عيني أبيه تمتلئان بالدموع.. حيث كان هذا منظرا لم يره في حياته.. قال يوسف بصوت هامس: ولكنني أحبك، يا فارس. عليك أن تصدقني.. هلا فعلت؟ -مرر كفه في شعره وأمسك بكفه برقة- أنا أحبك كثيرا، لا تتصور إلى أي حد، إنك وأمك أهم شيء في حياتي. هل تصدقني؟
كانت دموع فارس تتساقط.. هذه هي الكلمة التي حلم طوال حياته بسماعها من أبيه.. الكلمة التي تعطش لها دائما.. وضع كفيه الصغيرتين على وجنتي أبيه اللتين انزلقت عليهما دمعتان.. مسحهما وقال متأثرا: أصدقك يا بابا..أنا أصدقك.. لا تبك!
سحب يوسف نفسا عميقا وقال وهو يريح كفه بخفة على كف فارس الموضوعة على وجنته: لقد كنت مخطئا يافارس.. وسوف لن يستمر هذا.. ولكنني بحاجة لمساعدتك، عليك أن تعلمني مالم يعلمني إياه أبي، وعليك أن تخبرني كيف أكون أبا جيدا.
مسح فارس عينيه من جديد.. قال بنبرة حنونة: لا تحزن يابابا.. أنت أب جيد. أقسم لك!
ابتسم يوسف ابتسامة خفيفة متأثرا بطريقة فارس في مواساته.. قبل جبينه قبلة طويلة قبل أن يقول برقة: سأكون أفضل أب في العالم -وضع كفيه على وجنتي فارس ونظر إلى عينيه- ولكن! عدني أنك لن تظن ظنا كهذا من جديد.. عدني أن تؤمن دائما أنني أحبك أكثر من أي شيء!
كان قلب فارس الذي دائما ما انكمش وارتجف بسبب برودة أبيه يتدفأ وينتعش بهذا الحنان الذي لم يجربه منه من قبل.. بهذا الوجه العاطفي الذي لم يره على أبيه مسبقا.. قال بصدق: أعدك بابا.
تنهد يوسف.. مسح أسفل عيني فارس من جديد بإبهاميه مبعدا الدموع.. قال بهدوء: شكرا لك.
قال فارس بتردد: ولكن.. إذا أردتني أن أعرف أنك تحبني، سيكون عليك فقط أن تقول ذلك.
ابتسم يوسف، إنه تعليق مضحك ولكنه مفحم.. أجاب باستسلام: معك حق. سأفعل هذا.
نهض وحمل فارس من جديد معه.. قرر أن يكسر من الآن فصاعدا الحواجز التي كان يجبر نفسه على بنائها معه.. وأن يتصرف على طبيعته ويرى أين سيوصله هذا. إنه سيفعل أي شيء مقابل أن لا يعتقد فارس اعتقادا فظيعا مثل أنه يكرهه من جديد.
قال وهو يسير باتجاه السيارة: مارأيك أن نأكل شيئا قبل أن نعود؟
فكر فارس وهو يحيط بذراعيه عنق أبيه: بيتزا!
تنهد يوسف وهو يحس بشعور غريب إثر هذه الحميمية غير المعتادة: بيتزا إذن. اتفقنا.
ركبا السيارة، بعد صمت قصير قال فارس بصوت مضطرب: أنا آسف.. لما فعلت اليوم في المدرسة.
نظر إليه يوسف للحظات قبل أن يقول بهدوء: سنتكلم لاحقا، أنا وأنت وماما. حسنا؟ انس الأمر الآن.
تمتم فارس بضيق: ولكنك كنت غاضبا مني.
: بالطبع غضبت.. يافارس. لقد آذيت صديقك. ولكنني غاضب من فعلك، لست غاضبا منك أنت. ولهذا أريد أن نتكلم بهدوء وتركيز في المنزل. نحن على وفاق.. حسنا؟
همهم فارس وسكت.. أحس يوسف بغباء لم يشعر به في حياته، فهو لا يعرف الأشياء التي يفترض أن يقولها كي يريح فارس، إنه يتكلم فقط دون ثقة بما يقول. أحس أنه بحاجة لكتيب تعليمات يخبره كيف سيتصرف مع كل موقف. يبدو الأمر سهلا جدا حين يراقب منال، إنها تمارس الأمومة بطريقة فطرية رغم أنها لم تكن لها أم في حياتها.. إنها بارعة وعفوية لدرجة أنها تبدي له الأمر بسيطا.
أخذ يوسف فارس لمدينة ملاهٍ يحبها، لعب معه في كل لعبة ولم يكتف بمراقبته، ثم أكلا وعادا إلى المنزل.
بالنسبة لفارس، كانت تلك سويعات قليلة، ولكنها كانت من أهم الأوقات التي قضاها منذ ولد. إنه لم يقض وقتا كهذا مع أبيه في حياته. كما لم ير أباه مرحا ومشاركا ومهتما من قبل.. لم يعبر عن سعادته بكلماته، وتجنب كل كلام عاطفي بعد نقاش حادثة المدرسة، وصار حديثه كله عمليا، ولكن وجهه كان مضيئا.
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...