١٣١

659 40 17
                                    

زفر يوسف وهو يرفع الهاتف ويتصل بها من جديد.. لم يتحمل أن يتجاهلها فحسب.. كان عليه أن يجيب.
خفق قلبه حين وصله صوتها الهادئ: أهلا يوسف.
ابتسم.. صوتها كئيب، كما هو دائما، ولكنه ودود، كما لم يكن أبدا!
: أهلا حبيبتي.. آسف لأنني لم أجب اتصالك، أنا أكثر الناس حظا على وجه الأرض لأنكِ تفتقدينني..
كانت منال مستلقية على الأريكة في صالة المنزل.. كانت تتأمل السماء من خلال زجاج الشرفة، وكانت تدخن سيجارتها الإلكترونية.

تعرف أن يوسف سيصاب بالجنون إذا عرف أنها عادت للتدخين، ولكنها لم تهتم، سيتشاجران، ولكنه لن يؤذيها، وبذلك، كانت تسمح لنفسها بالتدخين من وقت لآخر. ومع ذلك، لم تكن تجرؤ على تدخين السجائر العادية بسبب رائحتها النفاذة.. مهما كان الأمر، هي ستخفي أمر تدخينها عن يوسف قدر استطاعتها.. رغم أنها بدأت تطمئن حوله، وتحس أنه بالفعل لن يؤذيها، ولكن ذلك لا يعني أنها لم تكن تخشى غضبه.

تنهدت ومررت كفها في شعرها بكآبة وهي تحس بشيء من الفراغ.. صوته الحنون جعلها تحس بالتحسن مع ذلك.. لاحظت أنه لم يبرر لمَ لمْ يجبها، وإنما اعتذر فقط، وهذا لم يكن من عادته.. أحست أنه كان يخفي شيئا ما.
قالت بصوت خافت: أحس بشعور سيئ يا يوسف.. فارس ليس في البيت.. ليس لدي فعلا ما أفعله.. أحس لأول مرة منذ زمن أن حياتي لا معنى لها..

اضطرب يوسف كثيرا واعتدل في جلسته.. أحس بالراحة لأنه عاود الاتصال بها، لا يجب أن يتركها وحدها في مزاج كهذا.. قال بجدية: لا تفكري هكذا يا منال.. إن معنى حياتكِ ليس مرتبطا بفارس ولا بغيره! إنه مرتبط بما تريدينه أنت!
أغمضت عينيها وقالت بضيق: لعل هذا كان صحيحا في الماضي، حين كان هناك ما أريده فعلا.. لكن.. ليس الآن..

زفر يوسف.. صحيح.. قبل وفاة أحمد، ورغم اكتئاب منال الذي لم يكن بسيطا ولا سهلا، كانت على الأقل ترغب في ممارسة الحياة نفسها، كانت ترغب بالعمل، بالتعلّم، بالقراءة، وبأشياء مختلفة.
أجاب بصوت ناعم للغاية: منال، حبيبتي، هذه فترة وستمر، أعدكِ بذلك.. لا تربطي غرض وجودك بأي أحد، لا بفارس ولا بغيره. والآن، دعينا نفعل معا شيئا ما.. نحن لا نمارس فعاليات الناس الطبيعيين أبدا! سأمرّك خلال ساعة، دعينا نذهب إلى المتحف الكبير، نحن نعيش في هذه المدينة منذ عشرات السنين ولم نزره مرة!

نفثت منال الدخان وراقبته يتصاعد فوقها ويتشقق ويختفي.. أحست بالامتنان لمجهود يوسف في تحسين شعورها، ولكن..: لا أرغب.. لا أرغب بفعل أي شيء.
تنهد يوسف: حسنا.. أنا أعرف أين سآخذكِ، تجهّزي فحسب، ما رأيكِ؟
تذمرت منال بكسل: لا.. لا أريد يا يوسف.
عبس يوسف وقال: هيا يا منال، لا تكوني عنيدة، أعدكِ أنكِ ستتحسنين بعد المشوار، من فضلكِ!
سكتت منال ثم قالت بهدوء: ألم تكن متعجلا للذهاب إلى العمل؟
كانت محقة.. لقد أهمل يوسف عمله طويلا.. صحيح أنه تركه في أيد أمينة، ولكن، كان عليه أن يعود لمراقبة الأمور بنفسه.
أجابها بمرح: ليذهب العمل إلى الجحيم! هيا! لنذهب معا! من فضلكِ!
: أين أنت الآن؟
سكت حين صدمه السؤال.. كان سؤالا طبيعيا سألته كي تعرف كم سيستغرق من الوقت حتى يصل إليها، ولكنه وضعه في موقف سيئ للغاية.. لم يكن ليكذب عليها مهما كانت العواقب.
قال بصوت متماسك: في السيارة.. لكن، يمكننا أن نخرج خلال ساعة.
لم يسمع منها جوابا.. تعجب للصمت الذي قطعته هي مجددا بصوت خافت: لم تذهب إلى العمل؟

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن