٨١

1.4K 55 9
                                    

دخلت حياة منال وفارس من جديد في روتين.. فهي تذهب إلى عملها صباحا وهو يذهب إلى مدرسته التي انتهت مدة فصله عنها، يقضي بعدها الوقت مع المربية حتى تعود منال من عملها لتقضي بقية اليوم معه، تذاكر معه، ويخرجان قبيل المساء لينزها بندق وليلعبا في المنتزه. وهكذا كانت حياة عملية وسلسة..
يتكلم فارس مع أبيه يوميا لساعات.. كان هذا يذهل منال، فحتى عندما سافر يوسف في المرة السابقة كانت مكالماته مع فارس لاتتجاوز الدقيقتين. أما الآن، فهما يتصلان ببعضهما بشكل متكرر، وقت الطعام، وقت النوم، وحتى وقت اللاشيء. لدرجة أنها مرةً دخلت الصالة لتجد فارس يشاهد التلفاز وهو يكلم يوسف الذي كان يتابع البرنامج ذاته معه في نفس الوقت. هذا عدا ألعاب الفيديو التي يلعبانها معا عن طريق الإنترنت يوميا.
هذا التواصل المستمر سهّل الابتعاد بعض الشيء على فارس.. خصوصا أنه لم يكن الوحيد الذي يسعى للتواصل مع أبيه، بل كان يوسف بنفسه يتصل به ويحرص على الكلام معه.. خلصه هذا من خوفه الدائم بأنه يثقل عليه أو يزعجه.. وجعله يطمئن ويرتاح.

جلست منال مع فارس ذات ليلة كي تراجع معه دروسه.. تثاءب فارس بتملل: مامااا! أنا نعسان!
تنهدت وقالت معاتبة: لم يكن عليك أن تؤخر دروسك إلى هذا الوقت..
: آسف.. لننم.. سنكمل غدا.
نظرة إلى جفنيه الثقيلين أعلمتها أن المذاكرة لامعنى لها الآن.. قالت باستسلام: حسنا.. دعنا نرى فقط ماذا سيفوتنا..
قرأت الدفتر الذي يسجل فيه المعلمون ملاحظاتهم.. قطبت حاجبيها حين رأت ملحوظة من معلمة الكتابة والنحو.. "قطعة تعبيرية لحفل نهاية السنة".
سألته عن ذلك فأجاب بتردد..: اه.. لقد كتبنا موضوعا.. كان على كل منا أن يكتب عن قدوته في الحياة، وسيقرأ كل منا ماكتبه في الحفل.
ابتسمت: هذا جميل.. هل كتبتها؟
أجاب بحماسة وقد بدا عليه النشاط بعض الشيء: نعم.. لقد قضيت في كتابتها أياما.. لقد أجهدتني كثيرا.. -أخرج ظرفا من حقيبته- هذه هي.. يمكنكِ قراءتها ولكن لاتخبري بابا! إنها مفاجأة!
لم تفهم لماذا كانت مفاجأة ولكنها أخذت الظرف دون تعليق.. فتحته وهي تحس بعيني فارس المترقبتين عليها..
أحست باضطراب حاد حين بدأت تقرأ الموضوع المعنوَن "قدوتي"
" قدوتي الأولى في الحياة هو أبي، لأنه الأب المثالي. إنه رحوم ومحب ومعطاء، وحريص علي، ويعلمني أن أكون مثله في تعاملي مع الآخرين، أن لا أؤذي غيري ولا أ...."
لم تعد منال قادرة على متابعة القراءة.. دعكت جبينها المبلل بتوتر شديد.. تعرف أن فارس لا يعرف أباه، ولا يعرف معدن يوسف الحقيقي، وأنها لايجب أن تحمّل هذا الكلام الظريف أكثر من معناه.. ولكن شيئا في قوله أنه قدوته جعلها تحس بغثيان شديد. لقد تصورت أن يكبر فارس ليتحول إلى مختل سقيم مثل أبيه. لعل هذا شيء وراثي، لعله يسري في حمضه النووي.. شيء ما أرعبها وأخافها، إلى أي حد صار يوسف يستولي على عقل فارس وعواطفه؟
انتفضت حين سألها فارس بقلق: ماما! مابالكِ؟
بلعت ريقها واستدعت كل قوتها لتقول بمرح: فارس، إنه رائع، أنت بارع في الكتابة!
ابتسم فارس بخجل: فعلا؟ هل تظنين.. اه.. هل تظنين أنه سيعجب بابا؟
ضغطت على أسنانها.. اللعين يوسف ينتصر من جديد.. يقول فارس أن أباه لا يؤذي أحدا، ولا يعي أنه كان يريد أن يرميه رضيعا في حضانة المستشفى كي لايضطر حتى للنظر إليه. ولا يعي أنه انتزعه من حضنها إجبارا كي يعطيه لغرباء.
تمالكت نفسها وقالت بلطف وهي تمرر كفها في شعره: دون شك.. سيكون سعيدا جدا.
تنهد فارس براحة.. نهضا وبقيت معه في السرير حتى نام.. لقد صار ينام بجانبها يوميا وأهمل غرفته تماما.. بدا لها أنه لم يعد أصلا باستطاعته أن ينام وحيدا بعد اعتياده على النوم مع أبيه..

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن