دخل يوسف الصالة المنارة بضوء خافت، وتأمّل منال فيما كان عائدا من غرفتهما، حيث أخذ فارس إلى هناك.
لقد امتنع فارس عن النوم وحده منذ مدة، وصار ينام وسطهما كل يوم. كان ذلك عكس نصيحة الطبيبة، والتي كانت تنبههما مرارا وتكرارا على تنمية استقلاليته، والحد من تعلقه المرضيّ بهما، ولكن، لم يكن أي منهما يستطيع فعل ذلك.
كان تأنيب الضمير يقتلهما، وكانا يتعاطفان مع فارس كثيرا، ولهذا، كان من المستحيل عليهما إجباره على أي شيء، أو رسم أي حدود بينه وبينهما.كانت منال ملتفة بالبطانية حيث كان الثلاثة جالسين، وكانت مستندة
بكسل على الأريكة، وبملامحها الكئيبة كانت تعبث بهاتفها بشرود.
استند يوسف بكتفه على دعامة الباب وظل يتأمل أكثر، كانت تمزق شفتيها بأسنانها دون وعي، وببطء شديد، وكانت أصابعها تنزلق على الشاشة، بدا وكأنها كانت تقرأ شيئا ما، وكان حاجباها مقطبين، كعادتهما.
رفعت عينيها عليه بتساؤل.. ابتسم لها.. تأملته لحظات ثم أعادت عينها على هاتفها..
تنهد وتقدم إلى الداخل، جلس بجانبها وأحاطها وسطها بذراعه وهو يشدها إليه.. قبّل جبينها وهو يمرر كفه في شعرها وهمس: كيف حالك؟
تمتمت بخمول: بخير..
سحب يوسف من على المنضدة الألبوم الذي كان يقلبه فارس.. قال بهدوء: ما هذا؟ هل هو شيء لا ترغبين أن أراه؟
تنهدت منال.. يعرف يوسف جيدا كيف يقرؤها.. ولقد لاحظ جيدا أنها أسرعت في إبعاد الألبوم فور قدومه.. قالت بصوت خفيض وهي ترفع عينيها عن الهاتف وتحدق بعينيه: لا.. يا يوسف.. أظن أن رؤيته ستزعجك فحسب..
عقد يوسف حاجبيه وفتح الألبوم، وبالفعل، أحس بالألم مباشرة وهو يتأمل الصور.. ليس وكأنه يستطيع أن ينسى، ولا للحظة واحدة، كيف أنه كان عديم القيمة في سنوات فارس الأولى وخلال نشأته.. كانت هذه الفكرة تزعجه للغاية وتجعله يحس بأنانيته أكثر..
شد إليه منال أكثر وهو يبعد البطانية من بينهما ويريح كفه على فخذها، قال شاردا وهو يتأمل الصور: لقد قمتِ بعمل بطولي في تربيتكِ لفارس..
تنهدت منال بضيق وسكتت.. تابع يوسف وهو يقلّب الصفحات، ويرى ملامح فارس التي تشع بالسعادة: لقد عاش فارس سنين حياته دائما بأحسن مظهر، بأطيب رائحة، بأحسن تعليم وأحسن تغذية.. تعرفين يا منال.. يزعجني كثيرا أنك لا تقدّرين حجم المجهود الذي بذلتِه من أجل ابننا.. لا أظن أن إنسانا آخر على وجه الأرض يستطيع أن يقدّم تربية مثالية، بل فوق المثالية، كتربيتكِ، في مثل تلك الظروف التي كنتُ أجبركِ على معايشتها..
انكمشت منال قليلا في حضنه، وأحست بالكآبة تقطر من صوته.. تابع يوسف: أعرف أنكِ فكرتِ بصعوبة تلك الأوقات فور أن رأيت هذه الصور.. ولكن.. صدقيني.. سيفهم فارس هذه الأشياء حين يكبر..قطبت منال حاجبيها حين لم تفهم ما يعني.. رفع عينيه عن الألبوم وثبتها في عينيها.. قال بصوت عميق: لا تعتقدي، يا منال، أن هذا الحب الذي يبديه لي فارس سيدوم.. إنها سنوات محدودة.. سيكبر، سينضج، وسيربط الخيوط ببعضها، سيفهم ما فعلت، وبكل بساطة سأكون خارج المعادلة.. ووقتها، سيفهم حجم التضحية التي قدمتِها من أجله.
سكتت منال.. هل يقول يوسف أن فارس سيكرهه لا محالة، حتى لو استمرت حياتهما على السلام الذي يخططان له؟ ولكن..
سحبت منال نفسا عميقا.. اعتدلت في جلستها، مرر كفه على وجنتها بلهفة حين أحس بانفعال واضح في ملامحها، وباحمرار بسيط في وجنتها بسبب الانفعال والحرارة الناتجة عن البطانية الصوفية.. قالت منال بصوت متعب: هل تظن أنني أريد هذا؟ أنني أريده أن يكبر ويكرهك؟
سكت يوسف بكآبة ثم قال وهو يفلت وجنتها ويبعد عينيها عنه: لا أعرف.. أنا واثق أنه بالنسبة لك سيناريو أفضل مما حصل قبل قليل.
زفرت واعتدلت في جلستها أكثر.. قالت بكآبة مماثلة، وببعض الانفعال: لا أريده أن يكرهك، أريده أن يحمل مشاعر طبيعية وصحية لكلينا.. يجب أن يكون هذا هدفنا يا يوسف.. يجب أن ننهي أنانيّتنا هذه.
تنهد يوسف، قال وهو يمرر كفه على فخذها ليهدّئها: حسنا.. صحيح.. ليكن هذا هدفنا..
لم يكن يوسف صادقا تماما فيما قال، ولكنه كان يحاول أن يقتنع بذلك. بالنسبة له، فارس الآن تتحكم به عاطفته بالكامل.. ولكن، ما إن يكبر، ويلاحظ أكثر، ويفهم أكثر، سينتهي دوره في حياته. كان يوسف يحاول أن يجهز نفسه على أنه لن يكون موجودا في حياة ابنه المستقبلية، كي يخفف على نفسه الألم.
أنت تقرأ
يومٌ لا نهايةَ له
Romanceتعيش منال منذ طفولتها مع الوحش.. الوحش، والعائلة الوحيدة. هذه القصة محض خيال، ولا تشابه بينها وبين الواقع. فضلا، لا تنقل هذه القصة أو تنشرها في أي مكان. لا ينصح بقراءة القصة لمن هم دون ١٨ عاما. *مهم: لا تروج هذه القصة لأي شكل من أشكال العنف، وإنما...