١٣

3.1K 68 1
                                    

خلال فترة.. كان لطيفا على غير عادته.. منذ ذلك الكابوس.. لم يؤذها.. لم يلمسها واكتفى بمداعبات بسيطة..
كانت منشغلة بتجهيز الفطور وهي تفكر.. لم يعد الى المنزل ليلة الامس.. واثقة انه قضى الليلة مع امرأة ما.. ومع ذلك كانت تجهزه لأنها تعرف انه سيعود جائعا وراغبا بالتدلل..
قطعها صوت الهاتف عن عملها.. ارتعدت، كانت مكالمة من المستشفى.. لقد مر يوسف بحادث سير.. اغلقت الهاتف بعد ان اخذت التفاصيل.. اتصلت
بالمربية بيد تنتفض.. جلست على الارض وضمت ساقيها اليها ودفنت وجهها بين ركبتيها.. كانت تهرب.. عقلها متوقف تماما.. يوسف ليس بخير.. هذا ليس عاديا.. لم تحرك ساكنا حتى سمعت صوت الجرس.. كانت تشعر انها في بئر عميق.. فتحت الباب بسرعة.. دخلت المربية، تركت فارس معها وذهبت الى المستشفى..
__
زفرت براحة هائلة حين استلمت خبر افاقته بعد اسبوعين قضاهما في غيبوبة.. كان في خطر حقيقي..
لا تعرف كيف شعرت خلال تلك الفترة.. لكنها فهمت شيئا واحدا.. انها لا تريده ان يموت.. يستحق العذاب.. لكن لايجب ان يموت..
فركت كفيها ببعضهما بتوتر.. ماذا يجب ان تفعل الان؟ استرخت على كرسيها المقابل لباب غرفته.. هل تدخل عليه؟ ام تعود فحسب؟
كانت هذه المرة الاولى التي تملك فيها خيارا.. انه يقرر عنها دائما..
خرج الطبيب بعد فترة من غرفته.. سألته عن حالته..
: لن يستطيع المشي لمدة..ولكنه سيستعيد قدرته ببعض التمارين لعدة شهور..
اخبرها انه نائم بفعل المهدئ وانه سيفيق بعد عدة ساعات.. زفرت وحسمت امرها.. دخلت بهدوء الى الغرفة..
كان بملابس المستشفى.. وجهه باهت ومصفر.. الكثير من الاسلاك موصولة بكفه واخرى بصدره.. كان يبدو ضعيفا.. وهذا اخافها.. لن يمشي؟ كيف سيتقبل خبرا كهذا؟ كيف سيرضى بنقصه وضعفه وحاجته للمساعدة؟
وقفت بجوار السرير.. تأملته لدقائق.. انه مخيف ووديع في الوقت نفسه.. يبدو مخلوقا مختلفا.. وكأنه ليس ذلك الظالم المتجبر ذاته..
تراجعت ورمت نفسها على الكنبة بتعب.. لحظات ونامت دون شعور..
__
فتحت عينيها ببطء على صوت حركة.. كان جسمها يؤلمها بسبب نومها جالسة.. لحظات واستوعبت اين هي واعتدلت.. بلعت ريقها بتوتر.. كان يجلس على السرير محدقا بها بنظرات ثابتة باردة.. والممرضة تغير إبره وتقيس ضغطه..
: لقد أزلنا عنك المغذي.. عليك أن تأكل يا أستاذ يوسف..
لم يلتفت اليها حتى.. بقيت نظراته معلقة على منال.. تنهدت الممرضة وخرجت.. نهضت منال دون حرف واحد إلى الحمام.. غسلت وجهها وسحبت نفسا عميقا قبل ان تخرج.. عندما دخلت عليه كان شبه مستلق يحدق في السقف بعيون باردة..قال بصوت مبحوح: ماذا تفعلين هنا؟
تنهدت.. قالت بصوت هادئ: لقد كنت مريضا وفي حالة خطرة..
لم يلتفت لها..: عودي..
سكتت بضيق.. بعد ان ينجو من الموت هذا هو الشيء الوحيد الذي يفكر بقوله لها.. عودي؟
تعرف انه لايريد لها ان تراه ضعيفا.. ولكن..
: الا تسمعين؟
لم تنطق.. تحركت باتجاه طاولة الطعام وسحبتها نحوه.. قطب حاجبيه ونظر باتجاهها.. جلست بخفة على السرير بجانبه.. قالت بصوت هادئ: سأبقى معك حتى تتحسن.
كانت تحس بشعور غريب ومقلق.. ان شعور فقده ايقظ في داخلها امورا غريبة.. وجعلها تتذكر اللحظات الحسنة التي عاشاها معا.. اللحظات التي كان حنونا معها خلالها في طفولتها.. والذكريات الكثيرة الجنسية والعاطفية التي كانت بينهما.. كانت تعرف انها مثال بسيط ومضحك على متلازمة ستوكهولم.. ربما هي من اكثر الحالات الغبية.. ولكنها لم تتمالك نفسها..
احتد تنفسه.. مد يده بصعوبة وامسك بمعصمها وغمغم: قلت لكِ اذهبي من امامي.. هل تظنين انكِ مضحية عظيمة؟
لم يؤلمها.. كانت يده ترتجف ومن الواضح ان الحركة تجهده.. لم يستطع ايلامها.. قالت بهدوء: انت بالكاد تدلك يدي بهذه القبضة..
افلتها وارتخى على الوسادة بتعب شديد.. قال بصوت منفعل: هل تتجاهلين اوامري لأني عاجز الآن؟ هل انتِ غبية لهذه الدرجة؟ يمكنني جعلكِ تندمين دون ان احرك اصبعا ايتها ال..
قاطعته بضيق قبل ان يشتمها: اعرف هذا.. هلا هدأت؟ هذا ليس عنادا!
سحب نفسا عميقا وقال بتعب: اخرجي يامنال قبل ان اجعلهم يجرونك الى الخارج..
اتسعت عيناه حين اقتربت.. انحنت بجواره ووضعت كفها على وجنته.. قالت بجدية وهي تركز عينيها على عينيه: لقد رأى كل منا الآخر في اسوأ حالاته يا يوسف.. لا يوجد شيء هنا تخفيه عني.. هلا تركتني اساعدك؟
احتدت انفاسه ونبضاته.. همس: ما الذي تحاولين فعله بي؟ هاه؟
قالت بضيق: لقد عشت معك اغلب حياتي.. وفي كل مرة مرض فيها احدنا عاونه الاخر.. انا لا افعل شيئا غريبا..
امسك بيدها وابعدها عن وجنته بعصبية: هذه اخر مرة احذركِ فيها.. عودي الى المنزل. حالا! دون حرف واحد!
تنهدت.. سحبت نفسها من عنده وخرجت دون تنطق..
اغمض عينيه وزفر حين خرجت.. لقد لانت له لانه كان في خطر.. لانها خشيت ان يذهب فحسب.. هكذا فجاة دون تحذيرات.. لكن هذا التاثير سينتهي.. وستعود لتمقته.. لاداعي ليسمح لها بالانجراف الان لعاطفتها.. وله.. ان يظهر لها ضعفه.. سيكون هذا ضده حين يرجع شعورها المعتاد له..
__
ايام مضت وهي في المنزل.. لم تذهب اليه ولم تخرج.. قضت وقتها مع فارس.. لم يتصل بها ولم يسال عنها.. وهذا لم يكن معتادا.. ان يهملها لعدة ايام.. بل لعله لم يحصل من قبل..
لم يكن السلوك العدواني بعد افاقته مستغربا.. كانت تعرف انه سيتصرف بتلك الطريقة.. انما كانت تأمل ان يتيح لها مجالا صغيرا.. صغيرا فقط..
كان كل هذا يضايقها.. لم يكن عليها ان تهتم لامره.. لم يكن عليها ان تهتم بهذا المجرم.. لكن.. لقد حصل كل شيء دون ارادتها.. لقد جعل نفسه عائلتها فاصبح كذلك.. هي لا تستطيع التحكم بهذا..
كان الوقت في منتصف الليل.. لم تنم.. هاجمها الارق كعادته.. بعد ان نام فارس انشغلت بقراءة كتاب.. كان من المضحك انها تشعر بالوحدة.. الم تتمن التخلص منه دائما؟
قطبت حاجبيها حين سمعت صوت هاتفها.. من سيتصل في ساعة كهذه؟
بلعت ريقها حين رأت اسمه على الشاشة.. لماذا وفي هذا الوقت؟ قلقت حين فكرت ان شيئا ما قد حصل له.. ضغطت زر الاجابة بحركة خاطفة ولم تنطق..
زفرت براحة هائلة حين سمعت صوته: منال..
كان صوته كئيبا.. لم تهتم.. انه بخير..
: ... كيف حالكِ يا منال؟
: كما هو الحال دائما..
تنهد حين سمع صوتها الهادئ.. قال بصوت لحوح لا تسمعه منه ابدا: قولي انكِ تحبينني يامنال..
سكتت بصدمة.. قالت بهدوء: هل انت بخير؟ -بحدة خفيفة- لقد شربت!
: قوليها..
اغمضت عينيها وتنهدت بتعب.. لماذا يفعل لها هذا؟ مهما كان منهارا.. لماذا عليها ان تكون ضحية انهياره هذا كل مرة؟
همست: انا احبك..
اغمض عينيه بشدة حين شعر بالدموع تحرقها.. دموعه التي يندر ان ترى النور.. كان بحاجة شديدة لحضنها.. بعد ايام من الوحدة في المستشفى.. من الكوابيس ومن التفكير الشديد المؤذي.. كان قد استهلك تماما..
تمتم: قولي انكِ لن تتركيني ابدا..
قالت باستسلام: لن اتركك.. ابدا..
ساد الصمت لحظات.. قال بهدوء: هل تعرفين.. ماذا فعل الذي يدعي انه والدكِ حين كنت طفلا؟
شعرت بشدّ في عضلاتها.. لماذا يتكلم عن هذا الان؟
قالت بصوت ضعيف: كلا..
تنهد تنهيدة تنم عن تعب شديد..: كانت ليلة هادئة وباردة يا منال.. حيث بدأ كل شيء.. في اليوم الذي ماتت فيه امي.. حين امسك بذراعي.. اقتادني الى غرفتي.. كان يلمسني بطريقة لم افهمها..
بدأت يد منال ترتجف.. لم تكن تريد ان تسمع البقية.. تمنت لو تغلق فحسب.. انكمشت ضامة ساقيها اليها.. اسندت رأسها بين ركبتيها وثبتت الهاتف على اذنها بقوة..
: لن اطيل في تفصيل هذا يا منال. في نهاية الامر.. كنت عاريا.. نازفا.. -سكت لحظات- تعرفين كيف يكون هذا مؤلما.. لاحاجة لأشرح لك..
لم تنطق.. كانت جامدة.. هي لم تتصور يوما ان يوسف عايش ما جعلها تعيشه.. صحيح ان هذا لا يعفيه من الذنب ولا يخفف من وضاعته.. ولكن..لقد كان طفلا. لم تتعجب بخصوص والدها.. ان اباها شيطان.. رغم كونه ملاكا معها هي.. الا انه كان شيطانا في كل منحى اخر من مناحي الحياة..
همس: السعار الجنسي كما تسمينه.. بدأ وقتها..
قالت بتعب: لماذا تقول لي هذا؟
حدق في السقف طويلا وتمتم: لأني أريدك أن تعرفيني.. أنا.. أنا لا أقول هذا لأعذر نفسي.. منال.. انا لا استحق شيئا.. انا لا استحقكِ.. لكنني.. لكني لا اتخلى عنكِ.. ولا يمكنني تغيير ذلك..
قالت بصوت حنون.. لا تستعمله معه ابدا: لا تفكر كثيرا.. يا يوسف.. في نهاية الامر.. تفرض علينا الايام ما سيحدث.. لسنا من يختاره..
سمعت منه تنهيدة طويلة.. قال بهدوء: انتبهي لنفسكِ..
اغلق بعدها.. زفرت بضيق ورمت الهاتف بجانبها.. دفنت نفسها في وسادتها ورأسها يتفجر بالافكار.. لا تعرف مالذي جعله في هذا المزاج العاطفي.. لكنه بالتأكيد شيء كيميائي.. مشروب او مخدر.. لا تعرف.. لن يقول كلاما كهذا وهو في كامل وعيه..
ثم.. والدها.. والدها.. امسكت برأسها بكلتي يديها.. كيف يفعل هذا؟
زفرت وامسكت بهاتفها.. تاملت رقم والدها طويلا.. تذكرت تحذير يوسف.. ثم سالت نفسها.. ماذا ستقول له اصلا لو هاتفته؟ و..
قضت اكثر من نصف ساعة تحارب افكارها.. في نهاية الامر استسلمت.. ضغطت ورفعت الهاتف الى اذنها..
ابتسمت بضيق حين جاءها صوت والدها مليئا بالنوم.. ياللظرافة.. يستطيع ان ينام؟
: منال!
سكتت.. لماذا هاتفته من الاساس؟
: حبيبتي.. منال! هل انتِ بخير؟
هل فعل هذا حقا؟ الحضن الحنون الذي آوى طفولتها.. كان عليها فعلا ان تعرف عن ماضيه مع يوسف منه!
: انا بخير.. اعتذر لازعاجك.. ساتحدث معك لاحقا..
اغلقت الهاتف وهي تشعر انها غبية.. لقد اتصلت فقط لتسمع صوته.. لتصدق ان هذا الصوت الحنون قد يفعل شيئا كهذا!
اغلقت هاتفها حين اتصل بها مجددا.. لم تندم على افساد نومه.. وجاهدت محاولة العودة للنوم..
__

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن