٣١

1.6K 48 3
                                    

بعد الفطور ساعدت منال بتجهيز فارس ثم ذهبوا جميعا.. كان فارس مضطربا وغير مستقر على شعور معين بخصوص هذه الرحلة.. وكان صامتا معظم الطريق..
قال بتفكير حين اقتربوا من العيادة..: كيف سأتكلم عند الطبيبة كما قلتِ ياماما كما اريد وانا اعرف انها ستخبركم بكل شيء اقوله؟
تنهدت منال وبالغت محاولة دفعه للكلام مرتاحا: هي لن تخبرنا.. في الحقيقة، يوجد شيء يسمى بخصوصية المريض. واذا قامت هي بخرقه واخبارنا بكلامك، يمكن ان تذهب الى السجن.
قطب فارس حاجبيه: السجن؟ فعلا؟
: صحيح. ليس عليك ان تقلق. هي ستخبرنا كيف سنساعدك، ولكنها لن تنقل لنا كلامك. اريدك ان تكون مرتاحا معها.. من اجلي.. اتفقنا؟
تنهد فارس بضيق وسكت.. وصلوا، رحبت الطبيبة بهم ولاطفت فارس قبل ان يدخلا الى الغرفة وطلبت من يوسف ومنال الانتظار في الخارج..
قبلت منال فارس وهمست له: كما قلتُ لك.. حسنا؟
ابتسم فارس بصعوبة وهز رأسه.. قال بهدوء: ستكونان هنا حين اخرج.. صحيح؟
عبثت منال بشعره: طبعا يا فارس.. الى اين سنذهب ونتركك!
تنهد بضيق..: لن تذهبا لأي مكان فيما انا في الداخل؟
: لن نذهب لأي مكان. اعدك.
سكت فارس ودخل مع الطبيبة التي سمعت هذا الحوار.. حين اغلقت الباب.. فتحت شاشة كاميرات المراقبة الموجودة في غرفتها.. كانت هذه الشاشة تصور غرفة الانتظار.. قالت بابتسامة: يمكنك الاطمئنان ان والديك هنا من خلال الشاشة التي تصور الخارج.. اريد تركيزك معي.. حسنا؟
زفر فارس براحة هائلة واضحة حين فهم انه يستطيع مراقبة والديه طيلة وجوده في الداخل.. ابتسم بطاعة وجلس حيث اشارت له..
كانت منال جالسة ويوسف في الخارج متجاورين.. كانت مسترخية على الكنبة تحدق باكتئاب وشرود.. قال بهدوء: مابالكِ؟
اطلقت تنهيدة حارة: لقد افسدنا حياته.
قطب حاجبيه.. تابعت منال: لقد عبثنا بنفسيته وافسدنا طفولته. لقد عجزنا عن تقديم الحياة الطبيعية التي كنت آمل ان نقدمها له حين ولد.
: نحن لم نفسد حياته يا منال.. انها ليست مثالية، ولكنه يعيش معيشة كريمة في بيئة حنونة ومريحة. انه لايعيش كما عشنا انا وانتِ. ونحن نساعده على تخطي المشاكل. لا تكوني بهذا التشاؤم!
نظرت اليه بضيق..: كلام فارغ. ليس عليه ان يعيش كما عشنا كي يكون تعيسا، لقد ابتكرنا له صنفا جديدا من التعاسة.
: ان رعبه من خسارة احدنا مشكلته الوحيدة.. ما ان نعالجها سنستطيع منحه الطفولة التي تريدين.
اجابت بجدية: لن يمحو اي شيء السنة التي قضيتها بعيدا عنه، والطريقة اللعينة التي تركته بها. انا اعرف ذلك الشعور. لقد ذقته.
: اذا كنتِ تريدين مساعدته فعلا سيكون عليك نسيان الماضي والتركيز على اصلاح المستقبل. ندمكِ على الذهاب لن يساعده.
رفعت عينيها الى عينيه.. اضطرب بعض الشيء.. قالت بهدوء: حسنا اذن.. انت تعرف ان خوفه من الفقد ليس مشكلته الوحيدة. انت تعرف جيدا ان جمودك معه وبعدك عنه مشكلة كبرى يعاني معها كل يوم ولا يعرف كيف يتعامل معها.
ازداد اضطرابه.. قال متضايقا: كيف تقولين هذا؟ انك تعرفين انني ابتعد عنه كي احميه.. انت تعرفينني اكثر من اي شخص اخر.. انت تعرفين انني حثالة. وان قربي منه سيؤذيه، وسيجعل جانبي المظلم يظهر له ويبتلعه. والا فهل اريد انا ان اعزل نفسي عنه؟ وهل اريد ان اراكما تعيشان في عالم لا استطيع الاقتراب منه؟
سحبت نفسا عميقا محاولة ان تستجمع طاقتها لهذه المحادثة.. اجابت بأهدأ نبرة ممكنة: انك لن تؤذيه. ان اذاك محصور علي لاسباب عدة. منها ابي، ومنها ان سيطرتك علي منذ الطفولة، واحساسك انك تمتلكني، وانني لا احد لي سواك، ووجودي امامك كفريسة شهية ضعيفة، كل هذا كان يحفز جنونك وميلك السادي لايذائي والتحكم بي. وميلك الجنسي لي لاحقا زاد كل هذا وضاعفه.
انك لاتعايش نفس الظرف مع فارس. انك تحبه حبا ابويا، انت تعرف انك لاتملكه، وتعرف انه ليس مقطوعا من شجرة ومرميا مثلي. ليس من سبب يحفز امراضك معه. لقد بقيتَ معه وحدكما سنة كاملة ولقد عاملتَه احسن معاملة. عندما ذهبتُ انا كنت اعرف انك ستكون خيّرا معه، ولو لم اكن واثقة من ذلك تمام الثقة لما كنت ذهبت وتركته معك.
كان يوسف يستمع بصمت عابثا بمفتاح السيارة في يده.. لم يعلق حين فرغت وحدق في المفتاح شاردا. سكتا.
بعد دقائق سمعا صوت ضحكة فارس من الداخل.. ابتسم الاثنان وتبادلا نظرة مباشرةً.. كانت لحظة صافية ونظيفة لا يخالجها الا محبتهما لفارس. ذابت الابتسامة خلال ثوان وعادت الكآبة لتسود الجو..
لاحظت هزه المتتابع لقدمه وتوتره.. قالت بضيق: انت بحاجة لسيجارة.
حك ذقنه بعصبية: نعم.
تنهدت.. قالت بجدية..: ان عليك ان تقلع. انا لا امزح. سيكون عليك ان تعيش الخمسين سنة القادمة كلها. لا اسمح لك بالموت صغيرا فيما فارس يعاني كوابيس خسارتنا.
ابتسم وهدأ بعض الشيء: حقا؟ هذا سببك الوحيد ضد موتي؟
هزت كتفيها ببرود: لايمكنني التفكير بشيء آخر.
تنهد..: لا عليكِ. انت تعرفين انني لا ادخن بانتظام اصلا. لن يكون الاقلاع صعبا.
: انت تقول هذا، ولكن.. في اللحظة التي تحتاج فيها السيجارة بعد اقلاعك سيكون الامر جنوني الصعوبة.
قبل أن يجيب كان الباب يفتح، خرج فارس حاملا حلوى في يده، ومعه الطبيبة.. كانت ملامح فارس تبدو هادئة ومطمئنة ولكنه كان يبدو حزينا مع ذلك. وبدا انه بكى بعض الشيء. ابتسمت الطبيبة: انتظر يافارس هنا قليلا ريثما اتحدث مع والديك.
جلس فارس بصمت.. عبثت منال بشعره وشغلت التلفاز الموجود في غرفة الانتظار قبل ان تدخل ويوسف الى الداخل.
جلسا متجاورين على كنبة مقابل الطبيبة التي بدأت حديثها: ان فارس ولد رائع وذكي وحساس. هذه بالطبع امور حسنة ولكنها لا تجعل الامور اسهل عليكما.. هناك عدة نقاط اود مناقشتها.. اولا، يعاني فارس من القلق، واظنكما كنتما قد وصلتما لهذا التشخيص قبل ان تأتيا اصلا.. ومن المبكر جدا ان نعالج هذا دوائيا، انه قابل للادارة سلوكيا. لكنني كذلك اود الحديث عن مسألة مهمة.. -نظرت الى يوسف- وهي علاقة فارس بأبيه. والتي تشكل معضلة هائلة عنده كما لاحظت. انني لم اتكلم معه عن ذلك حتى بشكل مباشر.. لقد استطعت استدراجه للحديث عن كل شيء الا هذا، لقد انغلق على نفسه وانطوى مباشرة.. -تنهدت- ولهذا، اود ان اعطيكم شيئا كالواجب المنزلي. اريد رؤية فارس مجددا في الاسبوع القادم، وعلى هذا الواجب ان يتم قبل الموعد.
سحبت نفسا وركزت نظرها عليهما.. انهما يستمعان بتركيز شديد، رأت الاهتمام البالغ في عينيهما واحست بالراحة..
قالت منال بهدوء: سنفعل اي شيء بالتأكيد. ولكنني كذلك اود الاستماع لتحليل اكثر تفصيلا بخصوص فارس وحالته.
: أكيد. كنت على وشك الخوض في هذا.. ان قلق فارس ناجم عن تعلقه الكبير بك يا منال على الاكثر.. انه متعلق بأبيه كذلك، ولكن تعلقه بك مرضيّ ويجب ان يعالج، ومن هذه النقطة سيتحسن قلقه. يجب ان يعتاد على ان غيابك عنه لفترات معينة لايعني بالضرورة اختفاءك. ولهذا عليه ان يخوض تجربة غيابك ذاتها. اريدك يامنال خلال هذا الاسبوع ان تتركي المنزل خلال وجود فارس فيه عدة مرات، من الضروري ان تكون هذه المرات اطول من غيابك المعتاد. اجعلي هذا الطول تدريجيا. هذه ستكون الخطوة الاولى. اما انت يا يوسف -تنهدت- انا لست طبيبتك. ولهذا انا لا اعرف فعلا ماذا يجري معك ولماذا تبني بينك وبين فارس مسافة، ولهذا لن اناقش الموضوع، وانما ساعالجه. سيكون واجبك ان تقوم بنشاط هذا الاسبوع معه، شريطة ان لاتقل مدته عن نصف ساعة.
تنهد يوسف بضيق.. تعجبت الطبيبة..: يمكنني ان ارى بوضوح محبتك لفارس واهتمامك به.. ولهذا اواجه مشكلة في فهم ردات فعلك هذه.
قالت منال بهدوء: ان يوسف ليس سهل الطباع. وهو يرى ان اقترابه من فارس سيعكس تأثيرا سلبيا عليه.
كتبت الطبيبة بعض الملاحظات بتفكير: هل كانت لك علاقة غير صحية مع والديك يا يوسف؟
احتد صوت يوسف وقال بانزعاج: لقد قلتِ للتو انك لست طبيبتي.
ابتسمت بودية: صحيح، لا تنزعج من تدخلي. انني احاول الوصول الى المعلومات التي ستنفعني مع فارس فحسب.
زفر يوسف محاولا ان يهدأ: سأفعل ماتريدين. لاحاجة للخوض في التفاصيل.
: اتفقنا اذا. سأراكما الاسبوع القادم..
تصافحوا قبل ان يخرجوا.. قفز فارس مستعدا للذهاب حين رأى والديه.. لوح للطبيبة بودية قبل ان يخرجوا متجهين الى السيارة.. حرك يوسف السيارة وبدا شاردا..
سألت منال: كيف حالك اذن يا فارس؟ هل قضيت وقتا جيدا؟
ابتسم فارس مجيبا بهدوء: نعم، لا بأس به. هل اخبرتكما بما قلت؟
: كلا. لم تفعل
تنهد فارس مرتاحا: هذا جيد.. إنها لطيفة، لم أكن اريد ارسالها الى السجن.
ابتسمت منال، تابع فارس: هلا ذهبنا لمكان ما؟ انها العطلة.
فكرت منال لحظات: ماذا لو ذهبنا للتسوق؟ انت تستحق لعبة مقابل تعاونك اليوم.
قفز فارس متحمسا ومنعه حزام الامان من اطالة القفزة: صحيح! انا استحق!
قال يوسف بهدوء: سنعود الى البيت اولا. لدي عمل. اخرجا من هناك مرة اخرى بسيارتكِ.
انطفأت ملامح فارس.. قال بخيبة امل: لن تأتي معنا؟
تنهد يوسف..: كلا.. لكنني سأفعل في المرة القادمة.
سكت فارس متضايقا.. اوقف يوسف السيارة امام المنزل، انتظر نزولهما، لوح فارس لأبيه مودعا بتردد.. ابتسم يوسف بصعوبة ولوح هو الآخر لفارس قبل أن يذهب.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن