٩٧

1.1K 59 9
                                    

أفاقت منال صباحا بإرهاق بعد نوم قصير متقطع، وليلة متعبة قضتها تتنقل بين غرفتها وبين الصالة كي تعتني بيوسف..
لم يكن يوسف قد تكلم معها لبقية الليلة بعد أن رفضت البقاء معه، وكان عالقا في حالة بين النوم واليقظة حتى انهار أخيرا وفقد وعيه..

استحمت ووضعت عليها ملابس سميكة، ثم هاتفت فارس الذي كان يستعد للمدرسة، بدا في مزاج جيد ومقبول.
خرجت بعد ذلك من الغرفة، وجدت يوسف جالسا على الشرفة.
بدا لها في صحة جيدة.. عليه بدلة رمادية، معطف أسود طويل، ونظارته فوق عينيه.. يبدو مستعدا للخروج.
كان مسترخيا في مقعده، وذراعه التي تحمل قهوته مسندة على يد مقعده، بينما تحمل يده الأخرى هاتفه الذي كان ملتهيا به.
سخرت داخل نفسها.. إن الإنسان المؤذي لا يطول مرضه على مايبدو. لطالما كان يوسف هكذا، قصيرَ المرض.. كانت مناعته قوية، يندر أن يمرض، ولو توعّك عاد لصحته بسرعة.. على عكس طفولته كما يبدو..
أوحى لها مظهره بشعور غريب غير مريح، بدت على وجهه أمارات الامتعاض، لاتعرف لمَ، ولكنها أحست بالخطر، وقررت أن لا تقترب منه.

دخلت المطبخ، رفعت حاجبيها حين رأت كيس برتقال موضوع على المائدة.. إنها واثقة أنه لم يكن من برتقال في البيت بالأمس، هل ابتاعه هذا الصباح؟
انشغلت بتفريغ البرتقال في وعاء، ثم انتفضت بقلق ملتفتة نحو الباب حين سمعت صوت حركة، كان يوسف يقف مستندا بكتفه إلى دعامة الباب.
لقد أزال عنه معطفه، وحشر يديه في جيوب بنطاله فيما حدق بها بتلك النظرة الباردة التي كانت على وجهه.
قال بهدوء حين لاحظ تجمّدها أمامه: لا أذكر المرة الأخيرة التي اشترينا فيها برتقالا.. مضت مدة طويلة.. صحيح؟ لا أعرف لماذا، لقد أفقتُ اليوم شاعرا برغبة مفاجئة ملحّة به.
قطبت حاجبيها وأفلتت البرتقالة الأخيرة التي كانت في يدها داخل الوعاء.. انزلقت البرتقالة وتدحرجت لتصطدم بأخواتها..
لم تفهم منال.. هل هذه لعبة؟ هل هو يحاول استدراجها للحديث عن الأمس؟ أم أنه فعلا لا يتذكر كلامه عن أمه؟
رجّحت الخيار الثاني لأن هذا النوع من الألاعيب لم يكن من عادة يوسف. سحبت نفسا عميقا مهدئة فزعها من وجوده المفاجئ: يوسف، أنت لاتذكر كلامنا بالأمس؟

سكت يوسف.. اعتدل في وقفته ومرر يده على وجنته بتفكير: أتذكر بعضه. لا أعرف. تقريبا لا أتذكر ماذا حصل بعد مجيء الطبيب. هناك تنتهي ذكرياتي.
زفرت منال.. لايذكر كلامه عن أمه إذن.. ويبدو أنه لا يذكر أيضا موقفها القاسي حين تركته.
سألها بحذر، وببعض الحدة: لماذا تسألين؟ هل حصل شيء بالأمس حين كنت خارج وعيي؟
اضطربت: لا.. كلا.. ولكن.. تكلمنا عن البرتقال.. ولهذا..
رمقها بشكّ لحظات ثم قال بلهجة أمر: تعالي، أريد أن أتكلم معكِ.
عبست حين خرج دون أن ينتظر ردها أصلا.. ياله من أسلوب.. إنه يتعمد الكلام معها هكذا.. لماذا؟ إذا لم يكن يذكر تركها له بالأمس، لماذا يتصرف بجفاء؟

أعدت لنفسها قهوة، سحبت سيجارتها الإلكترونية وتبعته إلى الشرفة باستسلام.
حين خطت داخل الشرفة نظرت إليه.. كان يثبت عينيه في عينيها بنظرة فيها تحدّ..
كانت جلسته عادية، ولكنه غيرها ليضع ساقا فوق ساق بتلك الجلسة التي تكرهها فور دخولها.. قطبت حاجبيها، من جديد يتعمد استفزازها.. لماذا تحس بهالة الشر هذه كلها منه منذ رأته؟
لاحظت خيطا أسود عالقا على ياقة قميصه الأبيض.. انزعجت لمنظره، لأنها كانت ويوسف كليهما مهووسين بتنظيم الأشياء إلى درجة معينة..
اقتربت منه ومدت يدها بسرعة نحو عنقه كي تبعد الخيط: يوج-
حين أوشكت أن تلمسه انتفض ونهض دافعا كرسيه إلى الخلف وتراجع مبتعدا عنها بحركة سريعة فيما بدت هجومية واضحة على وجهه..
اتسعت عيناها بصدمة: مابالك؟ هل جننت؟
نظر إليها بعدائية وغمغم مهددا: إياكِ أن تلمسيني. أنا لا أمزح! إياكِ!
سكتت كي تفهم ماجرى.. يوسف لايريدها أن تلمسه؟ هي؟ التي يتوق لأي لمسة منها؟
: ما مشكلتك!
سحب يوسف شهيقا كي يهدأ، نظر حيث كانت تستهدف حين مدت يدها ولاحظ الخيط، سحبه ورماه جانبا، جلس من جديد قبل أن يقول بجدية بالغة: لا تلمسيني دون إذن.
استاءت لمثل هذا التصريح.. لطالما كان لها الإذن بلمس يوسف متى شاءت.. إن يوسف بشكل عام حساس لأي لمسة، لم يكن يحب الاحتكاك المادي بالآخرين، ولكنه لم يكن كذلك معها، مطلقا.
قررت مبادلته العدائية، قالت هازئة: أتذكر أنني قلتُ هذه العبارة لك من قبل.
أجاب بجمود وهو يشير إلى كرسيها: ليس هذا وقت التذاكي. اجلسي.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن