٤٤

1.4K 45 0
                                    

: صباح الخير يا عصفور.
فتح فارس عينيه ببطء على صوت امه وعلى لمساتها اللطيفة على شعره..
: وقت المدرسة.
اغمض من جديد وتقلب على السرير بتكاسل.. بعد ان توقف عن التجاوب مع ندائها سحبت عنه الغطاء وبدأت تدغدغه.. قفز من مكانه وهو يضحك، لاحقته ودغدغته اكثر فابتعد عنها ضاحكا بصخب.. لخبطت شعره حين جلس اخيرا وهو يتنفس بسرعة وابتسمت: هيا اذن.. ستتأخر.
نهض وقد نشطته هذه الرياضة الصباحية القصيرة، تركته ليجهز نفسه وخرجت.. سمعت صوت سيارة يوسف من الخارج، قطبت حاجبيها واطلت من الشرفة، انزعجت، لقد هرب اللعين من جديد تاركا لها الساحة، وتاركا لها مهمة ايصال فارس للمدرسة. انه يريد ان يتجنبه غير عابئ بعواقب هذا..
بعد ان تناول فارس فطوره خرجا معا..: اين بابا؟ الن يوصلني هو؟
تنهدت: كلا، انه متعجل فلديه عمل كثير.
عبس فارس وهو يركب السيارة معها.. تأملت حركاته العصبية وهو يربط حزامه.. قالت بهدوء: ما مشكلتك يافارس؟ الستَ من لم يرد رؤيته بالامس؟
لف وجهه عنها الى النافذة متضايقا ولم يجب.. حركت السيارة وهي لا تعرف هل الوقت مبكر للحديث في مسألة الامس ام من الافضل ان تُناقش كي لا تترك اثرا كبيرا..
فاجأها حين تكلم هو بصوت خافت: ليس كذلك. لست.. لم اكن لا اريد رؤيته..
قطبت حاجبيها: ماذا اذن؟ هل كنت خائفا؟
انكمش مستعيدا منظر ابيه فوق احمد وسط بركة الدم.. قال هامسا: لا اعرف.. لا.. ولكن.. لماذا فعل له هذا؟
لعنت منال يوسف داخل نفسها.. ليست هي من يفترض بها ان تخوض هذه المحادثة، كان عليه هو ان يفعل، وان يتحمل مسؤولية اخطائه..

كانت حائرة.. لايمكنها تبرير ماحصل بذم احمد وتذكر مساوئه، اذ سيبدو الامر وكأنها تبرر للعنف والوحشية وتضع لهما اعذارا.. لم تكن عندها طريقة لتحسين منظر الفعلة او تحسين منظر يوسف نفسه.. ولا لتخفيف الصدمة على فارس الذي عاش حياته محميا من كل بادرة عنف او اذى جسدي.
قالت بهدوء: لقد فعله، ولايوجد سبب يبرر هذا الفعل. لقد اخطأ خطأ فادحا وغير مقبول، ولكننا في هذه العائلة كما أي عائلة، لا نترك المخطئ ولا نقاطعه، بل نحاوره وننصحه ونمنعه من الخطأ.
قال فارس بانفعال: ولكنني لم استطع التكلم معه!
: لماذا؟ انت تعرف انه لن يؤذيك ابدا! صحيح؟
اجاب فارس بسرعة: طبعا! اعرف. ان بابا لن يؤذيني ابدا. ولكن..

زفرت.. هاقد عادت التأتأة والاضطراب.. وكأنه يكتم شيئا ما.. قالت بلطف: قل يافارس، لا تتردد، يمكننا ان نتكلم في اي شيء انا وانت.
اطرق فارس وقال بصوت شارد ومروَّع: لقد.. انه لم يكن يضربه فقط.. لم يكن غاضبا فقط.. ولكن.. عندما كان يضربه.. لقد ابتسم. كان مستمتعا. لم افهم لماذا كان يبدو هكذا.. انا لم ار بابا هكذا من قبل. كان وجهه غريبا وكأنه شخص اخر..

احست منال بالضياع.. ان قوة ملاحظة فارس وذكاءه صارا مشكلة حقيقية..كيف لطفل يرى ذلك المشهد المرعب لأول مرة من حياته ان يدقق في ملامح الوجوه ويدرسها ويحللها بدلا من ان يرعبه ويشتته  الدم ويهيبه العنف؟ كيف له ان يلاحظ كل هذا، ثم بعد الملاحظة ان يحفظه ويتأثر به بهذه الطريقة.. كما انها تعرف ملامح يوسف التي يعنيها فارس.. انها ليست شيئا يحبذ الانسان ان يراه.. عيون متسعة تطفح بالشر وابتسامة شيطانية. لا يجب ان يرى اي طفل اباه هكذا..
قالت بنعومة: انا واثقة انك لم تفسر الامر بشكل صحيح.. لقد كنت خائفا يا فارس وكنت ترى منظرا مرعبا لايحب حتى الكبار رؤيته.. سيكون علينا ان نتكلم مع بابا ونسأله ونطلب منه ان يفسر لنا.. حسنا؟

هز فارس رأسه بالنفي.. قطبت حاجبيها: ولكن لماذا؟
اضطرب فارس هذه المرة اضطرابا شديدا..: لأن.. لأن بابا لا.. -سكت لحظات- لا اريد ان اتكلم.. -نظر اليها- هل يمكن ان نغير الموضوع؟
تعجبت.. هناك شيء يخفيه، بدا لها هذا واضحا.. شيء يشعر به بخصوص ابيه.. ولكن ماهو؟ ولماذا تأثر به لهذا الحد؟
ولكنها لم تضغط عليه: بالتأكيد.. لن نتكلم في الأمر من جديد الا حين تقرر انت.
ابتسم بتوتر.. حاولت الهاءه عن الامر واشغاله بمواضيع اخرى حتى وصلا.. قبلته وراقبته حتى اختفى في الداخل..
حركت سيارتها عائدة الى المنزل، حين وصلت رأت والدها من جديد امام الباب..
لم تتعجب، بل كانت متوقعة ظهوره في اي لحظة، وكانت واثقة انه يراقب منتظرا اللحظة التي ستكون فيها وحدها، او على الاقل دون يوسف في البيت.
اوقفت سيارتها ونزلت متحاملة على نفسها.. لم تكن بها طاقة لتلك المواجهة الآن..

اعتدل في وقفته بلهفة منتظرا اياها حين رآها.. سارت نحوه، تأملت وجهه، كانت عينه متورمة وعلى وجهه وشفتيه جرحان تمت خياطتهما..
تقدم منها وامسك كفها بكفه واحاط وجنتها بكفه الاخرى بقلق واضح: منال!! اين اختفيت؟ لقد كدت اجن من القلق! لماذا لا تجيبين رسائلي؟ هل يمنعكِ ذلك الملعون؟
احسن بغثيان شديد من صوته ومن وجوده.. ابعدت كفيه عنها وتراجعت خطوة.. قالت بضيق شديد: لا تقترب مني.. ارجوك!
تغير وجهه بصدمة..: ما المشكلة؟ -احتدت ملامحه- انه يوسف.. صحيح؟
ابتسمت بسخرية: هل تظن انك كنت ستستطيع الكلام معي لو ان يوسف لم يرد ذلك؟ -اشارت الى الحراس الموجودين حول المنزل- هل تظن ان واحدا منهم كان ليتركك تقترب مني مسافة متر حتى؟
سكت.. كان في الحقيقة يتمنى لو ان يوسف هو السبب.. فهو اخيرا يحس ان منال قد لانت له، ولم يكن يريد ان يصدق انها تريد ابعاده عنها من جديد..
قال بألم: لماذا اذن؟
مسحت وجهها بكفها باجهاد.. لن يتركها لو طلبت منه ان يبتعد فحسب ثم تركته ودخلت.. سيكون عليها ان توضح له ان يخرج من حياتها تماما.. اخرجت مفتاح البيت من جيبها وقالت بهدوء: لنتكلم في الداخل..
سكت احمد بقلق وتبعها.. انه ليس خائفا فحسب، بل هو مرعوب.

لقد عاش حياته كلها لا يطيق احدا، ولا يهتم بشيء سوى بمصلحته الشخصية، ولا يشعر بشيء، ولا بأي شعور.
حتى ولدت منال.. لقد كانت منال مفتاحه نحو الحياة.. لقد تعلم كيف يحب من خلالها.. صحيح انه احب امها، ولكنه كان حبا شهوانيا اكثر منه عاطفيا.. اما منال، فقد احبها من اعماق قلبه كأبٍ ومربّ.. لقد كانت الشخص الوحيد الذي احبه اكثر من نفسه.. وبعدما اضطر للتخلي عنها، ظل ذلك الشعور يحفره ويأكله من الداخل..
عندما عادت اخيرا الى حياته احس وكأنه ميتٌ اعيد انعاشه.. لقد تذكر محبته الهائلة لها واستيقظت كل ذرة من ابوته.. كان قد نسي ذلك الشعور، الشعور الذي يجعله لا يطيق ان تجرحها ابرة، ولا ان يحزنها مخلوق..
ولهذا، كان الان مرتعبا.. لانه يعرف انه لن يتحمل خسارتها من جديد.. وهو مستعد لفعل اي شيء للحفاظ عليها.
دخلا المنزل.. قادته الى الصالة: استرح.. ماذا تشرب؟
: لا شيء يا منال.. اريد ان اجلس معكِ فقط.

عاد ذلك الوخز الى قلبها حين رأت ملامحه التي يأكلها الحنان والقلق.. هي الاخرى تذكرت مشاعر كثيرة بسبب عودته الى حياتها.. مشاعر كانت قد نسيتها.. ذلك الحب الكبير الذي تراه في عينيه، الحب الابوي الرقيق الذي لا عوض عنه..
قالت مضطربة: انني بحاجة لكوب قهوة.. سأعد لك واحدا معي..
انسحبت دون ان تنتظر جوابه الى المطبخ.. زفر وحاول ان يرتاح في جلسته متأملا المكان حوله.. متسائلا عن نوع الحياة التي عاشتها ابنته في هذا المنزل..

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن