١٠٥

1.2K 70 13
                                    

انكمشت منال بتوتر حين ظل يوسف يحدق بها منتظرا بتعطش جوابها.. صراعٌ بشع كان يجري في عقلها..
فكرت.. لماذا توجب أن تكون هي دائما الطرف الأخلاقي والمنطقي والمتغاضي؟ لماذا يحق له هو أن يستغل شيئا كموت أبيها، المأساة الأكبر في حياتها، ويجبرها قسرا على الجنس الفموي أمام قبره دون أي احترام، أن يوصلها لأقصى حدودها لدرجة أنها تقيأت فوق ذلك القبر، ومن ثم، يتوقع منها أن تتصرف بأخلاقية معه، وأن تحترم مأساته؟
لم يكن قد مر أكثر من يوم على تلك الحادثة، ولازال ألمها طازجا جدا في نفسها..

في الوقت ذاته، كانت تعرف.. تعرف أن يوسف يعاني بعد هذه التصرفات كما تعاني هي.. تعرف أنه يدفع ثمن أخطائه. إنه يفقد سيطرته وليس يؤذيها بالتخطيط والعمد والنوايا المسبقة..
لم يكن هذا الهراء بالطبع يبرر تصرفاته، ولكنه كان يمنعها عن التصرف بطريقة مشابهة، لأنها عرفت أنها ليست مثله، لأنها عرفت أنها لو آذته، ستفعل هذا اختيارا وعمدا، لا خطأً مثله.

سحبت نفسا عميقا كي تهدئ أنفاسها المضطربة ونهضت عن الأريكة.. سحبت المنضدة ووضعتها أمامه وجلست فوقها كي تكون أمامه مباشرة.. أرادت أن تثبت عينيها في عينيه كي تتخذ قرارها..
لم يكن هذا التصرف الأفضل، إذ تألمت لفرط ما بدا تعيسا وضائعا..
اصطدم نظرها بمعطفه المرمي جانبا ولاحظت تدلي مجموعة مفاتيحه من جيبه.. ووقعت عينها على تلك الميدالية التي تجمع هذه المفاتيح معا..
إنها ميداليةٌ معدنية أكلها الصدأ، لها شكل فارسٍ إغريقي فوق حصانه بخوذة وسيف مرفوع.
بلعت ريقها ونوبة ذكريات حادة هاجمتها..

=
طرقت منال ذات الاثني عشر عاما باب مكتب يوسف باضطراب وتوتر شديد..
كانت تنقل وزنها بين قدم وأخرى، وتخفي وراء ظهرها علبةً صغيرة..
: ادخلي.
وصلها صوته جافا كعادته.. مصت شفتها بقلق ودخلت على أطراف أصابعها وكأنها تخشى حتى إصدار صوت بخطواتها..

كان جالسا وراء مكتبه، وبدا مرهقا ومنشغلا للغاية بحاسبه المحمول والأوراق المتناثرة حوله.. لقد كان أيامها يعمل بجنون، فتجارته كانت في أول ازدهارها، وثروته تتكون، وكان الحفاظ عليها وتكبيرها يتطلبان منه معظم وقته وجهده.

أطفأ سيجارته وأنزل نظارته مع دخولها.. رمقها بنظرة مسحها فيها من رأسها لقدميها قبل أن يسأل بجفاء: ماذا تريدين؟
بلعت ريقها بتوتر.. رأت أنه ليس بمزاج جيد مطلقا، ولم يكن الوقت ملائما لتفعل ما أرادت فعله، والذي كانت أصلا مترددة بخصوصه حتى لو كان مزاج يوسف أفضل مزاج في الكون.

قالت بصوت خافت وهي تتراجع ذاهبة للخارج: لا شيء.. آسفة.
انتفضت حين وصلها صوته الذي احتد قليلا..: منال!!
التفتت إليه من جديد حالا..: نعم؟
قال بصرامة: ماذا تريدين؟ إياكِ أن تقولي لا شيء.. إياكِ..

انكمشت خائفة من نبرته.. لاحظ يوسف هذا.. زفر وأحس بضميره يقرصه.. إنه يحس بالصداع، كما أنه متعب ومرهق لكثرة عمله ويفرغ إرهاقه عليها دون معنى.. زاد أثر الكدمة الصغيرة على وجنتها تأنيب ضميره.. إنه أثر قديم وقد صار طفيفا جدا وبالكاد يُرى، ولكنه لازال ملحوظا.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن