٦٤

1.2K 49 7
                                    

قطع حديثه مع الموظفين الثلاثة الذين كانوا في مكتبه حين طُرق الباب.. : ادخل.
دخل أحد الحرس بوجه متوتر بعض الشيء..: أستاذ يوسف، عندك ضيف، إنه يرفض المغادرة دون لقائك.
: من؟
تحمحم الحارس: حسنا، إنه أحمد.
قطب يوسف حاجبيه بصدمة: أحمد؟
: نعم، والد السيدة منال.
كانت هناك شخصيات معينة يشدد يوسف التعليمات بخصوصها على حرسه، كأحمد وحسام ونهى، فكل الحرس يحفظون أشكالهم عن ظهر قلب، ويحفظون أن عليهم التصرف بحرص وحذر في حال وجودهم، وأن عليهم تنبيه يوسف مباشرة ومنعهم من الاقتراب دون إذن، ولهذا، بمجرد اقتراب أحمد من موقع عمل يوسف، كان الحرس يوقفونه مانعين إياه من الاقتراب.

نهض يوسف مباشرة قاطعا الاجتماع: سنتابع لاحقا، يمكنكم الذهاب. -التفت إلى الحارس- أحضره إلى هنا.
خلت الغرفة إلا من يوسف، سار جيئة وذهابا محتارا، لماذا قد يأتي هذا الرجل لرؤيته؟ لقد بدأ يتوتر ويضطرب، وبدأت معدته تنقلب، فوجوده حول أحمد يصيبه بمشاعر فظيعة..
كل مايمكنه التفكير به كان سجنه الانفرادي الطويل في تلك الغرفة، عزلته الطويلة وتحديقه بالجدران مجاهدا كي لا يجن من الوحدة والملل، واغتصاب أحمد الوحشي المتكرر له، حرمانه له من أي عاطفة أو محبة، ثم رميه له أخيرا كالمهملات المستهلكة.
بدأ يرتجف ويتعرق.. مسح جبينه وبلع ريقه بتوتر محاولا أن يتماسك، إنه لايريد أن يكون ضعيفا أمام ذلك المخلوق..
فتح الثلاجة الصغيرة وسحب قارورة ماء، تجرع نصفها دفعة واحدة.. هدأ بعض الشيء.. وضعها على المكتب حين سمع طرق الباب.. سحب أعمق نفس استطاع سحبه وجلس خلف مكتبه محاولا أن يظهر بمظهر قوة، استرخى في جلسته، وضع ساقا فوق ساق مختارا الجلسة التي قالت منال أنها تظهره كالمتغطرس، أحس أنه هدأ أكثر حين مرت منال في ذهنه، حوّل ملامحه إلى البرود قبل أن يقول: ادخل.
فتح الحارس الباب، ليدخل أحمد ثم ينغلق الباب خلفه..
مسح يوسف أحمد بنظرة من أعلاه لأسفله.. كان معتادا على مظهر معين رآه عليه دائما، مظهر يوحي بالقوة والثقة والبجاحة، وبكراهية موجهة له هو تحديدا.. ولكنه لم يبد كذلك هذه المرة.
بدا منحني الظهر بعض الشيء، مغضن الوجه، غائر العينين، مهموما وحزينا.. الواضح أنه لم يكن قادما لغرض عدائي.
طال الصمت لحظات، حدق الاثنان ببعضهما، يوسف بنظرات جامدة، وأحمد بنظرات تميل إلى الضعف.
تنهد أحمد قبل أن يقول: هلا تكلمنا قليلا؟
ظل يوسف على صمته قبل أن يقول بهدوء: قُل، واختصر.
أغمض أحمد عينيه لثوان، رأى يوسف بوضوح أنه يعاني، أن هذه الزيارة صعبة عليه.. بالطبع، كان يستلذ بهذه المعاناة.
جلس أحمد على الأريكة الجلدية.. أسند كوعيه على ركبتيه محنيا ظهره.. قال محدقا بيوسف..: لقد كان باستطاعتي تناسي وجود منال معك، حين كنت بعيدا عنها، كنت أجبر نفسي على مسحها ومسحك من عقلي، حين كانت تعود إلى ذاكرتي، عدة مرات كل يوم، كان يصيبني ألم وهلع فظيعان، فأهرب من ذلك الشعور بأي طريقة كي أنسى. -سحب نفسا عميقا- أما الآن، حين صارت جزءا من حياتي، حين صرت أراها.. -صر على أسنانه متذكرا الإصابات التي يراها عليها كل مرة- حين صرت أرى آثار حياتها معك عليها، وحين صرت أرى بعيني تعاستها.. لم أعد أستطيع، صار النسيان ضربا من المستحيل.
تململ يوسف قائلا: ثم ماذا يا أحمد؟ إن همومك هذه كلها تسلية، كفيلم كوميدي، بالنسبة لي، أنت تضر قضيتك حين تتمسكن أمامي. ماذا تريد؟
قال أحمد منزعجا: ما أريده واضح.. ها أنا أمامك، ألست تريد أن تنتقم مني؟ ألستُ هدفك؟ دعها وشأنها يا يوسف، تصرف معي، اقتلني، افعل بي مافعلت بك، افعل ماشئت، فقط، اتركها. أنا أفتح أمامك بابا لا ينتهي من فرص الانتقام، ولكن اتركها! إنك تنتقم مني من خلالها منذ كان عمرها أقل من عشر سنين.. والآن، هي توشك أن تبلغ الثلاثين. إن هذا يكفي، انتقل للخطوة التالية، الخطوة الحقيقية، التي هي أنا.

يومٌ لا نهايةَ لهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن