كُنت بعدّي عليه كُل يوم الصُبح و أنا رايح الشُغل ، بخرُج وسط الزحام من المترو و أمشي لحَد سلم الخروج ، و كُل ما أقرّب أكتر للشارع كُل ما صوته بيعلي أكتر ، بمجرَد خروجي للشارع بحس بحالة إختناق بسبب الضوضاء و الزحام ، تقريبًا دي أكتر منطقة مزدحمة في المدينة ، بس كمان بمجرَد خروجي للشارع بسمَع صوته بوضوح ، معظم الناس اللي بتشتغل أو بتمشي من المنطقة دي بتعدّي عليه و عارفينه كويس ، دايمًا قاعد علي باب محطة المترو ، لابس هدوم قديمة و قذرة و بيهمهم بكلام مش مفهوم نهائيًا
كلام مش مفهوم مش يعني كلام أنا مش سامعه ، لا أنا سامعه كويس بس هوّ بيقول كلام مش مفهوم ، غالبًا كُل اللي بيمشوا من جنبه بيتجاهلوه ، قُليّل أوي لمّا حد بيلتفت ليه حتي أنا بصراحة ، دا مُجرد رجُل بدون مأوي بيصرخ بكلام مش مفهوم .. ههتم بيه ليه ؟ ، مُجرد شخص آخر في مشواري من البيت للشُغل و من الشُغل للبيت ، روتين يومي مش بيتغير ، بيتي ... المترو ... سلم المترو .. الراجل المُشرَد .. الشُغل !
لمّا بفكّر فيه دلوقتي بلاحظ حاجة غريبة ، هوّ دايمًا لابس نفس الهدوم ، محدش بيبصله خالص كأنه مش موجود ، عُمري ما شُفته بياكل أو بيشرب ، عُمري ما سمعته بيقول كلمة مفهومة .. بسأل نفسي ، هوّ مُمكن يكون بيتكلم بشكل طبيعي و أنا اللي عندي مشكلة و بسمعه بيقول كلام مش مفهوم ؟ .. دا مُستحيل !
في النهاية هوّ مش بيمثل ليّا أي حاجة غير إنه شخص مُشرَّد بعدّي عليه كُل يوم و أنا رايح أو راجع من الشُغل
لكن من 3 أيام كُل حاجة إتغيّرت .. تمامًا .. !
.
المترو زحمة جدًا .. كالعادة إتأخرت علي شُغلي و مزاجي وحش جدًا ، طالع علي السلم و سامعه كالعادة بيصرُخ بكلام مش مفهوم ، خرجت بسُرعة لكن و لأول مرة من سنين طويلة أشوف حد واقف معاه ، أدامه كان راجل لابس بدلة و باين عليه الخوف ، منكس راسه في الأرض و عينيه فيها دموع ، حط في جيبه خمسين دولار و هوّ بيقول بخوف و قلق : "أرجوك .. دي .. دي بس البداية "
دي مش أول مرة أشوف حد بيكلمه بس ، لا دي كمان أول مرة أشوف حد بيديله فلوس !
مشيت من جنبهم و قلت بصوت عالي : " ناس بتلاقي الفلوس في الشارع "
قلتها بصوت عالي كفاية لإني أخلي الإتنين يسمعوني ، الراجل المُشرّد رفع عينه من علي الأرض ببطء و بصلي في عينيا لثواني ، نظرة عينيه كانت مُخيفة ، مليانة ألم .. جنون .. توهان و ضياع ، لكني تجاهلته تمامًا و كمّلت طريقي لشُغلي
لكن تاني يوم بدأت الأمور تبقي أغرب و مُخيفة أكتر !
.
علي سلم المترو كُنت سامعه بيهمهم بكلامه اللي مش مفهوم كالعادة ، بمُجرد خروجي للشارع سكت تمامًا ، كان باصصلي بغضب ، نظرة عينيه مُخيفة ، مشي بنظراته معايا رغم إني تجاهلته ، وصلت آخر الشارع بخطوات سريعة قلقانة و بصيت ورايا ، بالرغم من إني بعدت عنه بمسافة كبيرة إلا إنه كان لسّه باصصلي بغضب ، دخلت باب الشركة و سمعته بيهمهم بكلامه اللي مفهوم مرة تانية
في الوقت دا مكُنتش عارف و لا فاهم إيه اللي بيحصل .. يبدو إن كلامي عن الفلوس ضايقه و دلوقتي هوّ بيحاول يضايقني بنظراته الغاضبة
لكن إكتشفت إن الموضوع مش كده خالص .. !!
لأن في الليلة دي الكابوس بدأ !
و الكابوس كان أسوأ من كُل محاولات الراجل المُشرّد لإنه يضايقني .. أسوأ بكتير !
الكابوس بيبدأ بأصوات مريعة ، نار بتفرقع و صوت حاجات بتتكسّر ، بحاول أفتح عيني ببطء ، حاسس بألم رهيب في كُل مكان في جسمي ، فتحت عينيّا بصعوبة لكن مش قادر أشوف حاجة ، بعد شوية أدركت إن الدم بينزل علي عينيا بقوة و مخليني مش شايف ، الدم اللي بينزف من كُل مكان في جسمي ، جسمي اللي مليان ألم ، حاسس بالنار قُريبة مني .. قُريبة من جنبي الشمال تحديدًا ، كُنت بصرخ من الخوف .. مرعوب بطريقة مش طبيعية !
فتحت عينيا و صحيت علي سريري .. بترعش و جسمي مليان عرق و عينيا مدمّعة !!
أنا حلمت بكوابيس قبل كده و منهم اللي كان أسوأ من ده .. لكن المرة دي الكابوس كان حقيقي !!
كان حقيقي جدًا !
لكن مع مرور اليوم و إنخراطي في مهامي اليومية نسيت الكابوس المُخيف دا تمامًا ، بمجرد ما ركبت المترو و قربت من شغلي كان عندي حاجات أهم أفكّر فيها ، علي سلم المترو كُنت سامعه بيهمهم بكلامه اللي مش مفهوم ، سألت نفسي بحيرة .. يا تري هيسكُت المرة دي كمان بمُجرد خروجي من باب المحطة ؟
بمجرد خروجي من الباب سكت تمامًا ، كان بيبصلي و عينيه مليانة غضب و ألم و جنون ، هزيت راسي في عدم تصديق ، مش معقول رد فعله علي كلمة بسيطة قلتها !
هيجبرني أغيّر محطة المترو و بالتالي همشي كتير عشان أوصَل الشُغل ، حاولت أتجاهله و أمشي من جنبه بهدوء ، المرة دي مكانش بيهمهم بكلام مش مفهوم ، المرة دي قال جُملة واضحة و مفهومة و بصوت مليان شر ، قالّي : " لو كُنت مسحت الدم من علي عينيك .. كنت شُفت الجحيم ! "
مش عارف إزاي أرد عليه أو المفروض أتصرف إزاي ؟
لكني حسيت بخوف مش طبيعي ، خوف ملاني و خلي قلبي يدُق بقوة ، إزاي الراجل المُشرّد ده عرف الكابوس بتاعي ؟
لأني بالظبط دا اللي فكرت فيه .. الألم .. الدم .. الحرق .. الخوف .. النار ، أنا لمّا صحيت فكرت إن دا الجحيم فعلًا ؟؟!
معرفتش أتصرَف ، كان لازم أقف أتكلم معاه ، أسأله و أستني إجابات .. لكن أنا معملتش كده .. أنا كملت طريقي كأن مفيش حاجة حصلت !
.
و لتاني ليلة علي التوالي جالي الكابوس ، المرة كان أطول و مُخيف أكتر ، بدأ بالصوت مرة تانية ، بحاول أفتح عينيّا لكن الدم بيمنعني أشوف أي حاجة ، النار بتقرب مني بطريقة مُخيفة ، المرة دي قررت أسمع كلامه ، رفعت إيدي و مسحت الدم المُتساقط علي عيني ، و ببطء .. الأمور بدأت تبقي أوضح
في البداية مكُنتش فاهم .. كُنت مشوّش ، لكني بعد فترة إستوعبت و أدركت إني مقلوب ، أنا متعلق رأسًا علي عقب ، اللي رابطني بالوضع المقلوب دا حزام أمان ، عربية مقلوبة ، بصيت جنبي ، فيه واحدة ست متعلقة جنبي ! ، حاولت أركز في ملامحها لكن أنا مش عارفها ، مش عارف دي مين أو بتعمل إيه معايا ، حالتها أسوأ من حالتي بكتير جدًا ، في البداية كُنت فاكرها ميتة ، لحَد ما فتحت عينيها و بصتلي ، عمري ما شٌفت القدر دا من الخوف و الألم في عينين حد قبل كدا ، فتحت فمها عشان تقولي حاجة لكن الدم إنسال من فمها غزير جدًا ، كانت بتختنق بدمها ، و لأنها مقلوبة رأسًا علي عقب فالدم كان بينسال بغزارة ، سعلت كذا مرة و طلعت صوت رهيب و مُخيف و ماتت ، جسمها توقف عن الحركة .. للأبد !
العربية اللي إحنا فيها كانت مقلوبة و جنبها عربية مقلوبة برضه ، النار بتقرب من العربيتين بسُرعة ، معنديش وقت كتير للأسف ، لازم أتصرف بسرعة ، زي المجنون بدوّر بإيدي علي الزر بتاع حزام الأمان ، لازم أفتحه ، لقيته و بسُرعة ضغطته ، وقعت علي راسي ، خبطة قوية ، حاسس بالدوار ، مديت إيدي علي وشي بالراحة ، فيه جرح كبير في دقني هوّ دا كان سبب النزيف اللي غطي عيني ، الألم القوي الغير مُحتمل اللي في إيدي الشمال بيقولي إنها مكسورة ، الباب بتاعي مقفول بالعربية التانية المقلوبة و مفيش هروب غير من باب الست الميتة ، لازم أزحف من تحتها و أحاول أخرج من الشباك ، لكن قبل ما أتحرك لاحظتهم .. وقفت مكاني ، الخوف شلني و جسمي كُله كان بيترعش ، ولدين توأم سنهم ميزيدش عن 6 شهور ، جسمهم الصُغيّر مليان كدمات و جروح و بدون أدني شك .. ميتين !!
.
كُنت عارف إني بحلم بس مش فاهم ليه الحلم دا تحديدًا ؟ ، مش عارف إزاي الراجل المُشرّد عرف إني بحلم الحلم دا ؟ ، هو .. هو دا مُستقبلي ؟
أنا هقابل الست دي و أتجوزها و نخلف ولدين توأم و يموتوا كُلهم في حادثة عربية ؟
هو دا عقابه ليّا ؟
دخلت في حالة صدمة ، أنا مش حاسس إني في كابوس ، أنا بفكر و عايش الكابوس كأنه حقيقة ، حاسس و عارف كُل حاجة ، حاسس بإحساس قاسي أوي ، حاسس بفقدان زوجة و إبنين في لحظة واحدة !
خرجت من الشباك و حاولت أقف بإستخدام إيدي السليمة ، راجل معرفوش جري عليّا و هوّ بيصرخ : " اللعنة .. إنت بخير ؟ "
حاولت أرد عليه أو أنطق بأي كلمة لكن مقدرتش !
حاولت أقوله عن الست و الولدين لكن الكلام طلع من فمي زي الهمهمة ، كلام مش مفهوم زي بتاع الراجل المُشرد ، حاولت أركِّز و أنطق كلام مفهوم ، بس مقدرتش ، مش عارف مالي ! ، اللي حصل في العربية خلاني متكلمش ، كُنت هتجنن ، أنا في الحلم بعيش وجهة نظر اللي بيحصله حادث مش بشوف الحادث ، أنا حاسس بكُل حاجة
بصيت علي زجاج العربية المقلوبة بصة أخيرة ، إنعكاسي علي الزجاج كان بيبصلي ببلاهة ، الشخص الموجود في الإنعكاس دا مش أنا ، دا الشخص المُشرَّد ، هوّ صحيح أصغر في السن حوالي ١٠ سنين ، وشه مليان جروح و ندبات و دم ، صرخت بخوف و رعب مالهمش حدود
صحيت من النوم علي سريري و بصرُخ برعب ، كان وقت الشُغل جه ، حاولت أتجاهل الكابوس المُخيف دا و أنشغل بروتيني الصباحي ، نزلت من بيتي و ركبت المترو ، لأول مرة من سنين طويلة مسمعش صوته و أنا طالع سلم المترو ، لمّا خرجت من المترو ملقيتوش !!
مكانه كان فارغ و مالوش أي أثر ، علي الأرض صورة فوتوغرافية مقلوبة ، مسكتها و بصيت فيها و أنا قلقان ، الصورة كانت للشخص المُشرّد و هوّ صُغيّر و معاه زوجته و التوأم اللي شُفتُهم في الكابوس ، ماتوا في حادثة عربية هوّ السبب فيها و دا اللي أثّر عليه
.
إحساسي قالّي إني مش هشوفه مرة تانية ، بس أنا من جوايا كنت عاوز أشوفه ... جدًا ، كُنت عاوز أقوله أد إيه أنا آسف علي خسارته ، أد إيه أنا آسف علي تجاهلي ليه كُل الفترة دي ، راجل زي دا كان يستحق مني مُعاملة أحسن من كدا !!
قررت إني مش هروح الشُغل النهاردة ، أنا محتاج أهدي أعصابي شوية ، مشيت في الشارع بدون هدف ، شبه التايهين ، مشيت في شوارع أول مرة أمشي فيها
لحَد ما لقيت ست عجوزة مُشردة قاعدة تشحت ، كانت بتكلم نفسها و باين عليها الجنون
مشيت ناحيتها و بهدوء طلعت من جيبي خمسين دولار و إديتهم لها و أنا بقولها : " دي بس مُجرد بداية "
.يعني احنا مُمكن نقول إن المُشرّد بيعاني من مرض معروف بإضطراب الفكر أو بيطلقوا عليه كمان حبسة ( مُمكن تسيرش علي جوجل و تقرا عنهم ) و غالبًا أصيب بيهم لما فك حزام الأمام و وقع علي راسه
لكن يظل هنا السؤال الأهم
هو إزاي المُشرد عرف الشخص دا حلم بإيه ؟
و إزاي أجبره يحلم باللي حصله عشان يقدّر ظروفه ؟
.
.
#بتاع_الرعب
#حدث_بالفعل
#قصص_حقيقية_حول_العالم